المشير عبد الله السلال أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية

المشير عبد الله السلال: أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية ومسيرة حافلة

من هو المشير عبد الله السلال

يقف المشير عبد الله يحيى السلال (1917-1994) كعلامة فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، فهو الرجل الذي ارتبط اسمه بقيام النظام الجمهوري في شمال اليمن، وشغل منصب أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية بعد الإطاحة بالنظام الملكي الإمامي في ثورة 26 سبتمبر 1962. جاء السلال من خلفية عسكرية، ولعب دوراً قيادياً بارزاً في حركة الضباط الأحرار التي خططت ونفذت الثورة، ليجد نفسه فجأة على رأس دولة فتية تواجه تحديات جسام، أبرزها حرب أهلية ضروس وتدخلات إقليمية واسعة. إن قراءة مسيرة عبد الله السلال هي قراءة لفترة التأسيس المضطربة للجمهورية، ولمرحلة مفصلية شكلت ملامح اليمن الحديث، بكل ما حملته من آمال وتضحيات وصراعات.
المشير عبد الله السلال أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية
 المشير عبد الله السلال أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية 

يهدف هذا المقال إلى الغوص في تفاصيل حياة عبد الله السلال ودوره التاريخي. سنستعرض نشأته وتكوينه العسكري، ونحلل الظروف التي أدت إلى اختياره لقيادة الثورة وتولي رئاسة الجمهورية. سنتناول سنوات حكمه الخمس (1962-1967)، وهي فترة اتسمت بالصراع العنيف بين الجمهوريين المدعومين من مصر الناصرية والملكيين المدعومين من المملكة العربية السعودية، والمعروفة بالحرب الأهلية في شمال اليمن. سنناقش التحديات الداخلية التي واجهها، والصراعات داخل المعسكر الجمهوري نفسه، وتأثير النفوذ المصري القوي على قراراته وسياساته. كما سنتطرق إلى الظروف التي أدت إلى الإطاحة به في انقلاب سلمي عام 1967، وسنوات منفاه الطويل، وعودته إلى اليمن في سنواته الأخيرة. إنها محاولة لتقديم صورة متكاملة عن أول رئيس لليمن الجمهوري، وتقييم إرثه ودوره في مرحلة مفصلية من تاريخ البلاد.

النشأة والخلفية العسكرية التكوين المبكر لقائد الثورة

ولد عبد الله يحيى السلال في قرية شعسان بمديرية سنحان، جنوب العاصمة صنعاء، عام 1917، في فترة كانت اليمن لا تزال تحت الحكم الإمامي الزيدي بقيادة الإمام يحيى حميد الدين. نشأ السلال في بيئة بسيطة، وتلقى تعليمه الأولي في قريته قبل أن ينتقل إلى صنعاء. لم تكن الفرص التعليمية متاحة على نطاق واسع آنذاك، وكان الالتحاق بالسلك العسكري أحد المسارات القليلة المتاحة للشباب الطامحين للترقي الاجتماعي أو المشاركة في الشأن العام.

التحق السلال بالمدرسة الحربية في صنعاء، ثم أُرسل ضمن بعثة عسكرية إلى العراق في منتصف الثلاثينيات لتلقي المزيد من التدريب العسكري، وهي تجربة يبدو أنها عرضته للأفكار القومية والتحررية التي كانت سائدة في بعض الأوساط العسكرية العربية آنذاك. بعد عودته إلى اليمن، تدرج في الرتب العسكرية، ولكنه سرعان ما اصطدم بالنظام الإمامي المحافظ والمغلق.

تورط السلال في ثورة الدستور عام 1948، وهي محاولة انقلاب فاشلة قادها السيد عبد الله الوزير ضد الإمام يحيى، والتي هدفت إلى إقامة حكم دستوري. بعد فشل الثورة، تم سجن السلال مع العديد من المشاركين الآخرين لعدة سنوات في سجن حجة الشهير. أُطلق سراحه لاحقاً في عهد الإمام أحمد بن يحيى، الذي خلف والده بعد اغتياله في ثورة 1948. على الرغم من سجنه، أعاده الإمام أحمد إلى الخدمة العسكرية، ويبدو أنه رأى فيه ضابطاً كفؤاً يمكن الاعتماد عليه. تم تعيينه في مناصب عسكرية مختلفة، بما في ذلك قائداً للحرس الملكي لفترة، ثم مفتشاً عاماً للجيش، وأخيراً قائداً للواء الحديدة قبيل وفاة الإمام أحمد بفترة وجيزة عام 1962. هذا المنصب الأخير في مدينة الحديدة الساحلية الهامة هو ما وضعه في موقع استراتيجي عشية اندلاع ثورة 26 سبتمبر. كانت هذه الخلفية العسكرية، وتجربته مع السجن السياسي، واحتكاكه بالضباط اليمنيين الآخرين المتذمرين من الحكم الإمامي، هي العوامل التي شكلت تكوين عبد الله السلال وهيأته للعب دور قيادي في التغيير القادم.

دوره في ثورة 26 سبتمبر 1962 قائد اللحظة الحاسمة

تعتبر ثورة 26 سبتمبر 1962 الحدث المؤسس للجمهورية العربية اليمنية ونقطة تحول جذرية في تاريخ اليمن الحديث. لعب عبد الله السلال دوراً محورياً وقيادياً في هذه الثورة، وإن كانت الظروف التي أدت إلى تصدره للمشهد تحمل بعض الجدل التاريخي.

  1. التخطيط للثورة: كانت هناك حالة من التذمر والغليان تسود أوساط قطاعات واسعة من الشعب اليمني، وخاصة بين المثقفين وضباط الجيش، ضد الحكم الإمامي المطلق الذي اعتبروه متخلفاً ومنعزلاً. تشكلت خلايا سرية من الضباط الأحرار الذين تأثروا بالأفكار القومية والثورية، وخاصة بنجاح ثورة يوليو 1952 في مصر بقيادة جمال عبد الناصر. كان السلال، بحكم منصبه وتاريخه، على اتصال ببعض هذه الخلايا، وإن كانت المصادر تختلف حول مدى عمق انخراطه في التخطيط المباشر مقارنة بضباط آخرين أصغر سناً وأكثر تحمساً مثل علي عبد المغني.
  2. وفاة الإمام أحمد وتولي البدر: توفي الإمام أحمد بن يحيى في 19 سبتمبر 1962، وخلفه ابنه محمد البدر. كان البدر يعتبر أكثر انفتاحاً من والده، وقام ببعض الإجراءات الإصلاحية الأولية، لكن الضباط الأحرار رأوا أن الوقت قد حان لتغيير جذري وليس مجرد إصلاحات شكلية.
  3. ليلة الثورة (26 سبتمبر): في ليلة 26 سبتمبر 1962، تحركت وحدات من الجيش بقيادة الضباط الأحرار وسيطرت على المواقع الحيوية في العاصمة صنعاء، بما في ذلك دار البشائر (قصر الإمام البدر) ومبنى الإذاعة. تم قصف القصر، وأُعلن عبر الإذاعة عن قيام الجمهورية العربية اليمنية وإنهاء الحكم الملكي.
  4. اختيار السلال قائداً ورئيساً: لم يكن السلال في صنعاء ليلة الثورة، بل كان في الحديدة. تشير الروايات إلى أنه تم استدعاؤه على عجل إلى صنعاء. هناك جدل حول كيفية اختياره؛ يعتقد البعض أنه لم يكن الخيار الأول للضباط الشباب، لكن رتبته العسكرية العالية نسبياً وعمره وخلفيته (كونه غير هاشمي) جعلته مرشحاً توافقياً ومقبولاً ليكون واجهة للثورة وقيادة مجلس قيادة الثورة. تم تعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة ثم رئيساً لمجلس قيادة الثورة، وبالتالي أول رئيس للجمهورية الوليدة.
  5. تثبيت أركان الثورة: واجهت الثورة تحديات فورية، أبرزها نجاة الإمام البدر ولجوئه إلى القبائل الموالية للملكية في شمال البلاد، وبدء حشد القوى المضادة للثورة بدعم خارجي (خاصة من السعودية والأردن). سرعان ما اعترفت مصر بالجمهورية الجديدة وقدمت دعماً سياسياً وعسكرياً حاسماً، بينما اتخذت السعودية موقفاً مناوئاً. استطاع السلال، بدعم مصري قوي، البدء في تشكيل حكومة وتثبيت أركان النظام الجمهوري في مواجهة التحديات المتصاعدة.

لقد كان دور السلال في ثورة سبتمبر محورياً، حيث وفر الغطاء العسكري والقيادي اللازم لنجاحها في لحظاتها الأولى الحرجة. ورغم الجدل حول كونه القائد المخطط أم القائد الذي فرضته الظروف، إلا أنه أصبح رمز الثورة وأول رئيس للدولة التي انبثقت عنها.

رئاسة الجمهورية العربية اليمنية (1962-1967): سنوات الحرب والتحديات

امتدت فترة رئاسة عبد الله السلال للجمهورية العربية اليمنية لخمس سنوات (سبتمبر 1962 - نوفمبر 1967)، وهي فترة اتسمت بالاضطراب الشديد والحرب الأهلية الطاحنة التي حددت بشكل كبير ملامح حكمه وسياساته.

  • اندلاع الحرب الأهلية: بمجرد نجاة الإمام محمد البدر وتوجهه شمالاً، بدأت القبائل الموالية للملكية، بدعم مالي وعسكري كبير من المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية، في تنظيم صفوفها وشن حرب ضد النظام الجمهوري الوليد. تحولت البلاد بسرعة إلى ساحة حرب أهلية واسعة النطاق استمرت لسنوات.
  • التدخل المصري الحاسم: استنجد السلال بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي لم يتأخر في إرسال قوات مصرية لدعم الجمهورية اليمنية. بدأ التدخل المصري بشكل محدود، لكنه سرعان ما تصاعد ليصل إلى عشرات الآلاف من الجنود المصريين الذين خاضوا حرباً شرسة في الجبال اليمنية الوعرة ضد الملكيين. أصبح بقاء نظام السلال يعتمد بشكل شبه كامل على الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي المصري.
  • تشكيل الحكومة والمؤسسات: عمل السلال على تشكيل حكومات متعاقبة وتأسيس بعض مؤسسات الدولة الجمهورية، لكن جهوده كانت مقيدة بظروف الحرب والاعتماد الكبير على مصر. تم إصدار دستور مؤقت وتشكيل مجلس رئاسي ومجلس شورى، لكن السلطة الفعلية كانت تتركز بشكل كبير في يد السلال والمجموعة المحيطة به، وبتأثير كبير من القيادة المصرية في صنعاء.
  • الصراعات داخل المعسكر الجمهوري: لم يكن المعسكر الجمهوري متجانساً. سرعان ما ظهرت خلافات وصراعات على السلطة والنفوذ بين التيارات المختلفة داخل الجمهوريين، بين العسكريين والمدنيين، وبين الجناح الأكثر راديكالية وقومية (الذي كان مقرباً من مصر) والجناح الأكثر اعتدالاً وتقليدية (الذي كان يضم بعض القضاة والزعماء القبليين والشخصيات المستقلة). اتُهم السلال في بعض الأحيان بالاعتماد المفرط على المصريين وتهميش بعض القوى الجمهورية الأخرى.
  • الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: أدت الحرب الأهلية إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. توقفت عجلة التنمية، واستنزفت الحرب موارد الدولة الشحيحة، واعتمدت البلاد بشكل كبير على المساعدات المصرية.
  • محاولات المصالحة الفاشلة: جرت عدة محاولات للمصالحة وإنهاء الحرب الأهلية برعاية عربية (مثل مؤتمري حرض وإركويت)، لكنها فشلت جميعاً بسبب تعنت الطرفين وتدخل القوى الإقليمية.

كانت فترة رئاسة عبد الله السلال فترة عصيبة وحرجة في تاريخ اليمن. لقد نجح في الحفاظ على النظام الجمهوري في مواجهة هجوم الملكيين الشرس، ولكنه فعل ذلك بثمن باهظ تمثل في حرب أهلية مدمرة واعتماد شبه كامل على القوة المصرية، مما أثر على استقلالية القرار اليمني وأثار انقسامات داخلية مهدت الطريق لنهايته السياسية.

الحرب الأهلية والتدخل المصري

شكلت الحرب الأهلية في شمال اليمن (1962-1970) الخلفية الدامية والمستمرة التي طبعت كامل فترة حكم عبد الله السلال. لم تكن مجرد صراع داخلي بين نظام جمهوري ناشئ ونظام ملكي مطاح به، بل تحولت بسرعة إلى حرب بالوكالة بين القوتين الإقليميتين الرئيسيتين آنذاك: مصر الناصرية والمملكة العربية السعودية.

  • طرفا الصراع:
    • الجمهوريون: بقيادة السلال ومجلس قيادة الثورة، يمثلون النظام الجديد المدعوم بقوة من مصر. ضم المعسكر الجمهوري ضباط الجيش، والمثقفين، والشباب، وبعض القبائل التي انحازت للجمهورية.
    • الملكيون: بقيادة الإمام المخلوع محمد البدر وأفراد الأسرة المالكة (حميد الدين)، يمثلون النظام القديم المدعوم بقوة من السعودية والأردن (وبريطانيا بشكل غير مباشر). اعتمد الملكيون بشكل كبير على ولاء القبائل القوية في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية.
  • الدور المصري الحاسم: كان التدخل العسكري المصري هو العامل الأبرز الذي منع سقوط الجمهورية في سنواتها الأولى. أرسل جمال عبد الناصر قوات ضخمة (وصلت في ذروتها إلى حوالي 70 ألف جندي)، وقدم دعماً جوياً ولوجستياً ومالياً هائلاً لنظام السلال. أصبحت مصر طرفاً مباشراً في الحرب، وتكبدت خسائر بشرية ومادية كبيرة فيما أصبح يُعرف بـ "فيتنام مصر".
  • الدور السعودي المقابل: رأت المملكة العربية السعودية في قيام نظام جمهوري قومي على حدودها الجنوبية تهديداً مباشراً لها، فسارعت إلى دعم الملكيين بالمال والسلاح والخبراء، وتحويل أراضيها إلى قواعد خلفية لهم. أصبحت الحرب أيضاً صراعاً على النفوذ بين الرياض والقاهرة.
  • طبيعة الحرب: كانت حرباً غير تقليدية في معظمها، دارت رحاها في تضاريس جبلية وعرة. اعتمد الملكيون على تكتيكات حرب العصابات والكمائن وقطع طرق الإمداد، بينما حاولت القوات الجمهورية والمصرية السيطرة على المدن الرئيسية والطرق الهامة وتأمينها. كانت حرباً مكلفة ووحشية، شهدت استخدام أسلحة متنوعة بما في ذلك الغازات السامة (من قبل القوات المصرية في بعض الحالات وفقاً لبعض المصادر).
  • التأثير على حكم السلال: جعلت الحرب والاعتماد على مصر نظام السلال يبدو للكثيرين وكأنه يفتقر إلى الاستقلالية والسيادة. أصبح السلال يُنظر إليه على أنه "رجل مصر في اليمن"، مما أضعف شرعيته الداخلية لدى بعض القوى الجمهورية التي كانت تطمح إلى دور أكبر في صنع القرار أو إلى مصالحة وطنية لا تفرضها القاهرة.
  • نهاية التدخل المصري: جاءت هزيمة مصر في حرب يونيو 1967 ضد إسرائيل لتشكل نقطة تحول. اضطر عبد الناصر، تحت وطأة الهزيمة والأزمة الاقتصادية، إلى سحب قواته من اليمن بموجب اتفاق مع الملك فيصل بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربية بالخرطوم (اتفاق الخرطوم، أغسطس 1967). كان انسحاب القوات المصرية هو العامل المباشر الذي أدى إلى سقوط نظام السلال بعد أقل من ثلاثة أشهر.

لقد كانت الحرب الأهلية والتدخل المصري العامل الأكثر تأثيراً وتحديداً لمسار حكم عبد الله السلال. ورغم أن هذا التدخل أنقذ الجمهورية، إلا أنه أيضاً أطال أمد الحرب، وزاد من تعقيداتها، وأثر بشكل كبير على استقلالية القرار اليمني، وساهم في نهاية المطاف في الظروف التي أدت إلى الإطاحة بالسلال نفسه.

تحديات الحكم والصراعات الداخلية

لم تقتصر التحديات التي واجهت عبد الله السلال خلال فترة رئاسته على الحرب ضد الملكيين والتدخلات الخارجية، بل امتدت لتشمل صراعات وانقسامات داخلية عميقة داخل المعسكر الجمهوري نفسه، بالإضافة إلى صعوبات اقتصادية وإدارية جمة.

  • الانقسام داخل القيادة الجمهورية: منذ البداية، لم تكن قيادة الثورة والنظام الجمهوري كتلة واحدة متجانسة. ظهرت تيارات وخلافات مختلفة:
    • الجناح العسكري الراديكالي: المقرب من السلال ومن التوجهات الناصرية، والذي كان يرى ضرورة الحسم العسكري والاعتماد الكلي على مصر.
    • الجناح المعتدل/التقليدي: ضم شخصيات مدنية وقبلية وقضاة (مثل القاضي عبد الرحمن الإرياني وأحمد محمد نعمان)، كانوا أكثر ميلاً للحلول السياسية والمصالحة الوطنية، وأقل حماساً للوجود المصري الطويل الأمد، وسعوا للحفاظ على بعض التوازنات التقليدية.
    • الضباط الشباب/اليساريون: بعض الضباط والمثقفين ذوي التوجهات اليسارية أو القومية الأكثر راديكالية، الذين كانوا ينتقدون أسلوب إدارة السلال ويرون أنه لم يحقق أهداف الثورة بالكامل.
    أدت هذه الخلافات إلى تغييرات حكومية متكررة، وصراعات على المناصب والنفوذ، ومحاولات انقلاب فاشلة، وإضعاف للجبهة الداخلية الجمهورية.
  • تهميش بعض القوى: اتُهم السلال بتهميش بعض القيادات الهامة التي شاركت في الثورة أو انضمت إليها لاحقاً، والاعتماد بشكل مفرط على دائرته المقربة وعلى الدعم المصري، مما أثار استياء بعض الشخصيات والقوى السياسية والقبلية.
  • الصعوبات الاقتصادية والإدارية: كانت الدولة الوليدة تفتقر إلى الموارد المالية والبشرية اللازمة لإدارة البلاد وتسيير شؤون المواطنين. أدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية المحدودة أصلاً، واستنزفت الموارد القليلة. اعتمدت الدولة بشكل كبير على المساعدات المصرية التي لم تكن كافية دائماً. عانت الإدارة الحكومية من الضعف ونقص الخبرة.
  • مسألة المصالحة الوطنية: كانت قضية المصالحة مع بعض القوى الملكية أو القبلية المترددة محل خلاف داخل المعسكر الجمهوري. بينما كان البعض يرى ضرورة الانفتاح والحوار لإنهاء الحرب، كان الجناح المتشدد يرفض أي تسوية مع "أعداء الثورة".
  • تأثير الوجود المصري: بينما كان الدعم المصري حيوياً لبقاء الجمهورية، إلا أن الوجود العسكري والسياسي المصري المكثف أثار أيضاً حساسيات وطنية لدى البعض، واعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية، خاصة مع طول أمد الحرب وتزايد الخسائر المصرية.

هذه التحديات والصراعات الداخلية، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية، شكلت بيئة سياسية وأمنية مضطربة للغاية، وجعلت مهمة عبد الله السلال في بناء دولة مستقرة وموحدة أمراً بالغ الصعوبة. لقد كان يدير أزمة مستمرة أكثر من كونه يبني دولة، وهذه الظروف هي التي ساهمت بشكل كبير في تآكل شعبيته وقاعدة دعمه، ومهدت الطريق للإطاحة به.

الإطاحة به في انقلاب 5 نوفمبر 1967

جاءت نهاية حكم عبد الله السلال بشكل مفاجئ وسلمي نسبيًا في 5 نوفمبر 1967، فيما يُعرف بـ "حركة 5 نوفمبر" أو "انقلاب 5 نوفمبر". حدثت الإطاحة به بينما كان خارج البلاد، مما جنب اليمن جولة جديدة من العنف الداخلي بين الجمهوريين أنفسهم.

  • السياق الإقليمي: هزيمة 1967 وانسحاب مصر: كانت هزيمة الجيوش العربية، وعلى رأسها الجيش المصري، في حرب يونيو 1967 ضد إسرائيل بمثابة ضربة قاصمة لنظام جمال عبد الناصر وللنفوذ المصري في المنطقة. أدت الهزيمة إلى تغيير في الأولويات المصرية، ودفعت عبد الناصر إلى البحث عن مخرج من المستنقع اليمني المكلف. تم التوصل إلى اتفاق الخرطوم في أغسطس 1967 بين عبد الناصر والملك فيصل، والذي نص على سحب القوات المصرية من اليمن ووقف الدعم السعودي للملكيين، وترك اليمنيين يقررون مصيرهم بأنفسهم.
  • تزايد الاستياء الداخلي: أدى الانسحاب المصري الوشيك إلى زيادة القلق داخل اليمن حول مستقبل الجمهورية وقدرتها على الصمود بمفردها. كما تزامن ذلك مع تزايد الاستياء من حكم السلال الذي اعتبره الكثيرون مسؤولاً عن طول أمد الحرب والاعتماد المفرط على مصر، وعن تهميش القوى السياسية والقبلية المعتدلة. برزت دعوات قوية للمصالحة الوطنية وتشكيل قيادة جديدة قادرة على توحيد الصف الجمهوري وإدارة المرحلة القادمة.
  • زيارة السلال للعراق: في أواخر أكتوبر 1967، غادر السلال اليمن في زيارة إلى العراق لحضور احتفالات ثورة 14 تموز. استغل خصومه داخل القيادة الجمهورية فرصة غيابه للتحرك ضده.
  • الانقلاب السلمي: في 5 نوفمبر 1967، تحركت مجموعة من كبار الضباط والسياسيين الجمهوريين المعتدلين، بقيادة شخصيات بارزة مثل القاضي عبد الرحمن الإرياني، والفريق حسن العمري، وأحمد محمد نعمان، وسيطروا على السلطة في صنعاء. تم الإعلان عبر الإذاعة عن إعفاء المشير عبد الله السلال من جميع مناصبه وتشكيل مجلس جمهوري جديد برئاسة القاضي الإرياني، وتعيين العمري قائداً عاماً للقوات المسلحة ورئيساً للوزراء.
  • قبول الأمر الواقع: لم تحدث مقاومة تذكر للانقلاب، حيث كان السلال خارج البلاد، وبدا أن هناك قبولاً واسعاً للتغيير داخل الجيش والمجتمع. تم إبلاغ السلال في بغداد بقرار إعفائه، وتم منعه من العودة إلى اليمن.

مثلت الإطاحة بالسلال نهاية لمرحلة التأسيس العاصفة للجمهورية وبداية لمرحلة جديدة سعت إلى تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب الأهلية بالاعتماد على الذات. لقد كان تغييراً ضرورياً في نظر الكثيرين لإنقاذ الجمهورية من الانهيار بعد انسحاب القوات المصرية. ورغم أن السلال كان رمز الثورة الأول، إلا أن الظروف الداخلية والإقليمية المتغيرة تجاوزته وجعلت من رحيله ضرورة للمضي قدماً.

سنوات المنفى والعودة الصامتة

بعد الإطاحة به في نوفمبر 1967، مُنع عبد الله السلال من العودة إلى اليمن وبدأ فترة طويلة من المنفى الاختياري، قضاها بشكل أساسي في جمهورية مصر العربية.

  • اللجوء إلى مصر: توجه السلال من العراق، حيث كان عند وقوع الانقلاب، إلى مصر. استقبله الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يشعر ببعض المسؤولية تجاه مصير الرجل الذي كان حليفه الرئيسي في اليمن والذي ارتبط نظامه بشكل وثيق بالدعم المصري. مُنح السلال حق اللجوء السياسي وعاش في القاهرة لسنوات عديدة.
  • الحياة في المنفى: عاش السلال حياة هادئة نسبياً في منفاه بالقاهرة، بعيداً عن الأضواء والسياسة. لم يحاول تنظيم معارضة للنظام الجديد في صنعاء أو القيام بأي دور سياسي من الخارج. حافظ على علاقات ودية مع القيادة المصرية خلال عهد عبد الناصر ثم أنور السادات.
  • المصالحة الوطنية في اليمن: في اليمن، نجحت القيادة الجديدة برئاسة القاضي الإرياني في تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب الأهلية رسمياً عام 1970، بعد صمود أسطوري للقوات الجمهورية في وجه حصار السبعين يوماً لصنعاء من قبل الملكيين. تم دمج العديد من القوى الملكية السابقة في النظام الجمهوري، وبدأت مرحلة جديدة من بناء الدولة.
  • العودة إلى اليمن: بعد سنوات طويلة في المنفى، وفي ظل تغير الأوضاع السياسية في اليمن مع وصول الرئيس علي عبد الله صالح إلى السلطة عام 1978، سُمح للسلال بالعودة إلى وطنه. تشير المصادر إلى أن عودته تمت في أوائل الثمانينيات (ربما عام 1981 أو 1982).
  • الحياة بعد العودة: عاش السلال سنواته الأخيرة في صنعاء بهدوء وصمت، بعيداً عن أي نشاط سياسي. تم تكريمه كأول رئيس للجمهورية ورمز من رموز الثورة، ولكنه لم يشغل أي منصب رسمي أو يلعب أي دور في الحياة العامة.
  • الوفاة: توفي المشير عبد الله السلال في صنعاء في 5 مارس 1994، عن عمر يناهز 77 عاماً، ودُفن فيها.

شكلت فترة المنفى الطويلة نهاية للمسيرة السياسية الفعلية لـعبد الله السلال. ورغم عودته إلى اليمن في سنواته الأخيرة، إلا أنها كانت عودة صامتة لرجل أصبح جزءاً من تاريخ مضى، ولم يعد لاعباً في حاضر البلاد الذي كان قد تغير كثيراً منذ أن غادره مجبراً عام 1967.

الإرث والتقييم التاريخي: مكانة أول رئيس

يبقى عبد الله السلال شخصية تاريخية هامة ومحورية في تاريخ اليمن المعاصر، ويخضع تقييم دوره وإرثه لوجهات نظر متباينة تعكس تعقيدات الفترة التي حكم فيها والتحديات التي واجهها.

  • رمز الثورة والجمهورية: سيظل السلال دائماً مرتبطاً بـثورة 26 سبتمبر 1962 وقيام النظام الجمهوري. كونه أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية يمنحه مكانة رمزية وتاريخية لا يمكن إنكارها. لقد كان في واجهة الأحداث في لحظة تغيير جذري، وقاد البلاد خلال سنوات التأسيس الأولى الصعبة.
  • قائد فترة الحرب الأهلية: ارتبط حكمه بشكل أساسي بفترة الحرب الأهلية الطاحنة. يُحسب له وللنظام الجمهوري الصمود في وجه الهجوم الملكي الشرس المدعوم خارجياً، والحفاظ على مكاسب الثورة. لكنه أيضاً يُنتقد لأسلوب إدارته للحرب، والاعتماد المفرط على الدعم المصري، وعدم القدرة على تحقيق المصالحة الوطنية خلال فترة حكمه.
  • العلاقة مع مصر وعبد الناصر: كانت علاقته بمصر وجمال عبد الناصر علاقة محورية ومصيرية. لولا الدعم المصري، لما تمكنت الجمهورية من البقاء على الأرجح. لكن هذه العلاقة الوثيقة جعلت حكمه يبدو تابعاً للقاهرة في نظر البعض، وأثرت على استقلالية القرار اليمني.
  • أسلوب الحكم: يُوصف حكم السلال بأنه كان عسكرياً وسلطوياً إلى حد كبير، وهو ما قد يكون مفهوماً في ظل ظروف الحرب، لكنه أيضاً أدى إلى تهميش بعض القوى المدنية والسياسية وإثارة الانقسامات داخل المعسكر الجمهوري.
  • الرجل الذي فرضته الظروف؟: يرى بعض المؤرخين أن السلال لم يكن بالضرورة رجل دولة صاحب رؤية استراتيجية بعيدة المدى، بل كان قائداً عسكرياً دفعته الظروف ليكون في قمة السلطة في لحظة تاريخية حرجة، وأدار الأمور بما تقتضيه ضرورات الحرب والبقاء.
  • المكانة في الذاكرة اليمنية: تختلف النظرة إلى السلال في الذاكرة اليمنية. يظل بطلاً قومياً ورمزاً للثورة في نظر الكثيرين، بينما يراه آخرون قائداً لم يكن على مستوى التحديات الكبرى التي واجهت اليمن في تلك الفترة، أو يعتبرونه مسؤولاً عن بعض الأخطاء التي ارتكبت.

الخاتمة: يمثل المشير عبد الله السلال فصلاً محورياً في قصة اليمن المعاصر. كأول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، قاد البلاد في فترة تحول جذري وعنيف، من نظام إمامي استمر لقرون إلى نظام جمهوري وليد واجه تحديات وجودية منذ لحظاته الأولى. ارتبط اسمه بثورة سبتمبر المجيدة، وبسنوات الحرب الأهلية الدامية، وبالتحالف الوثيق مع مصر الناصرية.

كانت فترة حكمه القصيرة نسبياً (خمس سنوات) مليئة بالأحداث الجسام والصراعات الداخلية والخارجية. لقد نجح في تثبيت أركان الجمهورية في مواجهة الملكيين، لكنه فعل ذلك باعتماد كبير على الدعم الخارجي، وواجه انتقادات بسبب أسلوب حكمه والانقسامات داخل المعسكر الجمهوري. جاءت الإطاحة به في نوفمبر 1967 نتيجة لتغير الظروف الإقليمية والداخلية، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الجمهورية سعت نحو المصالحة والاعتماد على الذات.

يبقى إرث عبد الله السلال معقداً وموضع نقاش، لكن مكانته كأول رئيس للجمهورية وكقائد لواجهة الثورة تظل محفوظة في سجلات التاريخ. إن دراسة مسيرته وتجربته تقدم دروساً هامة حول تحديات بناء الدولة في ظل الحرب والتدخلات الخارجية، وتعقيدات الانتقال من الأنظمة التقليدية إلى الأنظمة الحديثة في بيئة قبلية ومجتمعية مركبة كاليمن.
كـــــارم المرحـبـي
كـــــارم المرحـبـي
تعليقات