علي عبد الله صالح Ali Abdullah Saleh

علي عبد الله صالح: مسيرة رجل حكم اليمن لعقود بين الوحدة والانقسام

علي عبد الله صالح: مسيرة رجل حكم اليمن لعقود بين الوحدة والانقسام

يُعد علي عبد الله صالح (1947-2017) أحد أبرز وأكثر الشخصيات السياسية تأثيراً وجدلاً في تاريخ اليمن الحديث. امتد حكمه المباشر لليمن، بشطريه الشمالي ثم الموحد، لأكثر من ثلاثة عقود (1978-2012)، وهي فترة استثنائية في طولها شهدت تحولات كبرى ومصيرية في مسار البلاد. صعد صالح من خلفية عسكرية متواضعة ليصل إلى قمة هرم السلطة، وبرع في استخدام التكتيكات السياسية والمناورات القبلية والتحالفات المتقلبة للبقاء في الحكم. ارتبط اسمه بتحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، وهو الإنجاز الذي ينسبه إليه أنصاره، بينما يرى فيه منتقدوه حاكماً أوتوقراطياً أدار البلاد بشبكات من المحسوبية والفساد، وأوصلها في نهاية المطاف إلى أتون الحرب الأهلية. إن فهم مسيرة علي عبد الله صالح المعقدة والمتشابكة ضروري لفهم ديناميكيات السلطة والصراع في اليمن المعاصر.
علي عبد الله صالح Ali Abdullah Saleh
علي عبد الله صالح Ali Abdullah Saleh

يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية لمسار علي عبد الله صالح السياسي الطويل، بدءاً من نشأته وتدرجه في السلك العسكري، وصولاً إلى اعتلائه سدة الحكم في الجمهورية العربية اليمنية (الشمال) عام 1978. سنتناول دوره المحوري في تحقيق الوحدة مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب) عام 1990، والتحديات التي واجهت الدولة الوليدة، بما في ذلك حرب الانفصال عام 1994. سنستعرض أسلوبه في الحكم، وشبكة تحالفاته القبلية والسياسية، وتعاطيه مع الأزمات المتلاحقة كصعود تنظيم القاعدة، والتمرد الحوثي، والحراك الجنوبي. كما سنحلل أسباب سقوطه في خضم ثورة الشباب عام 2011، ودوره المثير للجدل في السنوات التي تلت تخليه عن السلطة، وتحالفه مع أعداء الأمس (الحوثيين)، وصولاً إلى نهايته الدراماتيكية في ديسمبر 2017. إنها محاولة لفهم إرث رجل طبع تاريخ اليمن المعاصر ببصماته العميقة والمتناقضة.

النشأة والصعود إلى السلطة (1947-1978)

ولد علي عبد الله صالح في قرية بيت الأحمر بمديرية سنحان، جنوب العاصمة صنعاء، في 21 مارس 1947 (على الرغم من وجود جدل حول تاريخ ميلاده الدقيق). ينتمي إلى قبيلة سنحان، وهي إحدى قبائل الطوق المحيطة بصنعاء والتي لعبت أدواراً هامة في تاريخ اليمن. لم يتلق صالح تعليماً نظامياً مكثفاً في صغره، والتحق بالسلك العسكري في سن مبكرة عام 1958، متأثراً بالبيئة القبلية والعسكرية التي نشأ فيها.

شارك صالح في الأحداث التي أعقبت ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بالحكم الإمامي في شمال اليمن، وانحاز إلى جانب النظام الجمهوري. تدرج في الرتب العسكرية، وتلقى تدريبات عسكرية إضافية، وأظهر ولاءً للرئيس إبراهيم الحمدي الذي وصل إلى السلطة عام 1974. بعد اغتيال الحمدي في ظروف غامضة عام 1977، وتولي أحمد حسين الغشمي الرئاسة لفترة قصيرة لم تتجاوز ثمانية أشهر قبل اغتياله هو الآخر في يونيو 1978، وجد صالح نفسه في موقع مؤثر داخل المؤسسة العسكرية.

في ظل الفراغ السياسي والأمني الذي أعقب اغتيال الغشمي، وبدعم من شبكة من الضباط الموالين له وبعض القوى القبلية، تم انتخاب المقدم علي عبد الله صالح (وكان حينها قائداً للواء تعز) رئيساً للجمهورية العربية اليمنية وقائداً عاماً للقوات المسلحة من قبل مجلس الشعب التأسيسي المؤقت في 17 يوليو 1978. كان وصوله للسلطة مفاجئاً للكثيرين، حيث لم يكن من الشخصيات السياسية البارزة، واعتبره البعض رئيساً انتقالياً ضعيفاً. لكن صالح أثبت عكس ذلك، حيث استطاع بسرعة تثبيت أركان حكمه، والتخلص من منافسيه المحتملين داخل الجيش والحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام الذي أسسه لاحقاً عام 1982)، وبناء شبكة واسعة من التحالفات القبلية والعسكرية التي ضمنت له البقاء في السلطة لسنوات طويلة قادمة. كانت هذه المرحلة بداية لصياغة نظام حكم اعتمد بشكل كبير على الولاءات الشخصية والقبلية والمؤسسة العسكرية.

توحيد اليمن (1990) الحلم والتحديات

يُعتبر تحقيق الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990 بين الجمهورية العربية اليمنية (الشمال) برئاسة علي عبد الله صالح، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب) بقيادة الحزب الاشتراكي اليمني، أحد أبرز الأحداث في تاريخ اليمن الحديث، ولعب صالح دوراً محورياً في إنجاز هذا الهدف الذي راود اليمنيين لعقود.

  1. السياق التاريخي: جاءت الوحدة تتويجاً لنضالات طويلة وحوارات متقطعة بين الشطرين، وتسارعت وتيرتها في أواخر الثمانينيات بفعل عوامل داخلية (مثل الصراعات الدامية في الجنوب عام 1986 والرغبة في الاستقرار) وخارجية (مثل انهيار المعسكر الاشتراكي الذي كان يدعم الجنوب، والتغيرات الإقليمية).
  2. دور صالح والحزب الاشتراكي: أظهر كل من الرئيس صالح وقيادة الحزب الاشتراكي (بقيادة علي سالم البيض) مرونة سياسية ورغبة في تجاوز الخلافات الأيديولوجية والتاريخية لتحقيق الوحدة. تم التوقيع على اتفاقية الوحدة التي نصت على قيام دولة ديمقراطية تعددية بنظام رئاسي، وتشكيل مجلس رئاسي انتقالي (برئاسة صالح ونيابة البيض)، وحكومة وحدة وطنية.
  3. آمال وتطلعات: استقبل الشارع اليمني الوحدة بفرحة عارمة وأمل كبير في مستقبل أفضل، حيث كان يُنظر إليها كخطوة نحو بناء دولة قوية ومستقرة ومزدهرة، وإنهاء عقود من الانقسام والحروب بالوكالة.
  4. التحديات المبكرة: سرعان ما بدأت التحديات تظهر أمام الدولة الوليدة. واجهت الوحدة صعوبات جمة في دمج المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية المختلفة للشطرين السابقين. برزت خلافات حول تقاسم السلطة والثروة، وتصاعدت التوترات بين شريكي الوحدة (المؤتمر الشعبي العام بزعامة صالح والحزب الاشتراكي بزعامة البيض)، خاصة بعد الانتخابات النيابية عام 1993.
  5. اتهامات بالتهميش: شعر الجنوبيون، وخاصة كوادر الحزب الاشتراكي، بالتهميش المتزايد وتفرد صالح ونظامه بالسيطرة على مفاصل الدولة، وتصاعدت حدة الخلافات السياسية والأمنية، بما في ذلك سلسلة من الاغتيالات التي طالت كوادر جنوبية.

كانت فترة الوحدة لحظة تاريخية فارقة، ورغم أنها بدأت بحلم كبير، إلا أن التحديات السياسية والاقتصادية العميقة، وعدم بناء أسس متينة للشراكة والثقة، سرعان ما وضعت هذا الإنجاز أمام اختبار عسير، مما أدى في النهاية إلى اندلاع حرب أهلية بعد أربع سنوات فقط من قيامها. يبقى دور علي عبد الله صالح في تحقيق الوحدة موضع تقدير من البعض، بينما يراه آخرون كجزء من عملية أدت إلى هيمنة طرف على آخر.

سنوات الحكم الموحد ترسيخ السلطة ومواجهة الأزمات (1990-2011)

تميزت فترة حكم علي عبد الله صالح لليمن الموحد، والتي امتدت لأكثر من عقدين، بمزيج من ترسيخ السلطة في يديه وفي يد نظامه وحزبه (المؤتمر الشعبي العام)، ومواجهة سلسلة متواصلة من الأزمات والتحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي عصفت بالبلاد.

  • حرب الانفصال (1994): بلغت الأزمة السياسية بين شريكي الوحدة ذروتها في صيف عام 1994، حيث اندلعت حرب أهلية قصيرة ولكنها مدمرة بعد إعلان قيادات جنوبية الانفصال. تمكنت القوات الموالية لصالح من حسم الحرب عسكرياً، مما أدى إلى ترسيخ هيمنة نظامه على كامل البلاد، ولكنه ترك جروحاً عميقة وشعوراً بالمرارة لدى الكثيرين في الجنوب، وهو ما شكل لاحقاً نواة للحراك الجنوبي.
  • ترسيخ حكم الفرد والحزب: بعد حرب 1994، عمل صالح على تعزيز قبضته على السلطة. تم تعديل الدستور لتعزيز صلاحيات الرئيس، وأصبح حزب المؤتمر الشعبي العام هو الحزب المهيمن بشكل شبه كامل على الحياة السياسية. تم توزيع المناصب الهامة في الدولة والجيش والأمن على المقربين منه وأبناء منطقته وقبيلته، مما خلق نظاماً يعتمد بشكل كبير على الولاءات الشخصية والقبلية والمحسوبية.
  • التحديات الاقتصادية والفساد: عانى اليمن خلال فترة حكم صالح من تحديات اقتصادية مزمنة، بما في ذلك انخفاض أسعار النفط (المصدر الرئيسي للدخل)، تزايد الديون الخارجية، ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتدهور الخدمات الأساسية. تزامنت هذه التحديات مع اتهامات واسعة النطاق بالفساد المالي والإداري الذي استشرى في مؤسسات الدولة، واستغلال موارد البلاد لصالح النخبة الحاكمة والمقربين منها.
  • الأزمات الأمنية المتلاحقة: واجه نظام صالح سلسلة من التحديات الأمنية الخطيرة:
  • صعود تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (AQAP): أصبح اليمن ملاذاً ومسرحاً لنشاط تنظيم القاعدة، وشهدت البلاد هجمات إرهابية بارزة (مثل الهجوم على المدمرة الأمريكية يو إس إس كول عام 2000)، مما وضع اليمن تحت ضغوط دولية لمكافحة الإرهاب، وهو الملف الذي استخدمه صالح للحصول على دعم ومساعدات خارجية.
  • التمرد الحوثي (حروب صعدة): بدءاً من عام 2004، خاضت الدولة ست جولات من الحروب المتقطعة ضد المتمردين الحوثيين في محافظة صعدة شمال البلاد، وهي حروب استنزفت موارد الدولة وأدت إلى أزمة إنسانية كبيرة دون حسم عسكري أو حل سياسي دائم.
  • الحراك الجنوبي (الحراك السلمي): بدءاً من عام 2007، تصاعدت الاحتجاجات السلمية في المحافظات الجنوبية للمطالبة بمعالجة المظالم السياسية والاقتصادية التي شعر بها الجنوبيون بعد حرب 1994، وتطورت بعض هذه المطالب لاحقاً للدعوة إلى الانفصال.
  • المناورات السياسية والتحالفات: اشتهر صالح بقدرته على المناورة السياسية وإدارة الأزمات من خلال سياسة "فرّق تسد"، واللعب على التناقضات القبلية والسياسية، وعقد التحالفات المؤقتة ثم الانقلاب عليها. أسلوبه هذا، الذي وصفه البعض بـ "الرقص على رؤوس الثعابين"، مكنه من البقاء في السلطة لفترة طويلة ولكنه أيضاً ساهم في تعميق الانقسامات وزيادة حالة عدم الاستقرار في البلاد.

شكلت هذه الفترة الطويلة من حكم علي عبد الله صالح لليمن الموحد مرحلة بالغة التعقيد، تميزت بالاستقرار السطحي الذي يخفي تحته أزمات عميقة وتوترات متصاعدة، أدت في نهاية المطاف إلى الانفجار الكبير مع اندلاع ثورة الشباب عام 2011.

الربيع اليمني وسقوط الرئيس (2011-2012)

كان عام 2011 عاماً مفصلياً في تاريخ اليمن الحديث، حيث شهد اندلاع انتفاضة شعبية واسعة النطاق، متأثرة بموجة "الربيع العربي" التي اجتاحت المنطقة، وأدت في النهاية إلى الإطاحة بنظام علي عبد الله صالح بعد أكثر من ثلاثة عقود في السلطة.

  • اندلاع الاحتجاجات: بدءاً من أواخر يناير ومطلع فبراير 2011، خرج آلاف الشباب والناشطين وممثلي القوى السياسية المعارضة إلى الشوارع في صنعاء والمدن اليمنية الأخرى، للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية، ووضع حد للفساد، وإنهاء حكم صالح الذي بدا وكأنه يخطط لتوريث السلطة لابنه أحمد.
  • التصعيد والقمع: قابل نظام صالح الاحتجاجات السلمية في البداية بمزيج من التجاهل ثم الوعود بالإصلاح، لكن مع اتساع رقعة الاحتجاجات، لجأ النظام إلى استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، مما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى (أبرزها مجزرة جمعة الكرامة في مارس 2011). هذا القمع زاد من زخم الثورة ودفع قطاعات أوسع من الشعب للانضمام إليها.
  • الانشقاقات في النظام: أدت أعمال العنف إلى حدوث انشقاقات هامة داخل النظام نفسه، أبرزها انشقاق اللواء علي محسن الأحمر (قائد الفرقة الأولى مدرع) وانضمامه إلى صفوف الثورة، بالإضافة إلى انشقاق شخصيات سياسية وقبلية ودبلوماسية بارزة، مما أضعف موقف صالح بشكل كبير.
  • محاولة الاغتيال (تفجير جامع النهدين): في 3 يونيو 2011، تعرض صالح لمحاولة اغتيال بتفجير استهدف المسجد داخل مجمع دار الرئاسة، مما أدى إلى إصابته بحروق وجروح بليغة ومقتل وجرح عدد من كبار المسؤولين. نُقل صالح للعلاج في المملكة العربية السعودية، وغيابه عن البلاد لعدة أشهر أدى إلى زيادة الضغوط عليه للتنحي.
  • المبادرة الخليجية ونقل السلطة: بعد عودته من العلاج، وتحت ضغوط داخلية وإقليمية ودولية مكثفة، وافق صالح على التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية في الرياض في نوفمبر 2011. نصت المبادرة على نقل صالح لسلطاته إلى نائبه عبد ربه منصور هادي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، مقابل منحه حصانة من الملاحقة القضائية.
  • التنحي الرسمي: في فبراير 2012، أجريت انتخابات رئاسية كان فيها هادي المرشح التوافقي الوحيد، وتسلم السلطة رسمياً من صالح، لتنتهي بذلك حقبة حكمه التي دامت 33 عاماً.

مثلت ثورة 2011 نقطة تحول كبرى، حيث أطاحت بواحد من أقدم الحكام في العالم العربي. لكن عملية الانتقال السياسي التي أعقبت تنحي صالح واجهت تعقيدات وتحديات هائلة، ولم تنجح في تحقيق الاستقرار المنشود، بل فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع أكثر حدة وتعقيداً، لعب فيها صالح نفسه دوراً محورياً مرة أخرى.

ما بعد الرئاسة اللاعب الخفي والتحالفات المتقلبة (2012-2017)

على عكس المتوقع، لم يعتزل علي عبد الله صالح الحياة السياسية بعد تخليه الرسمي عن السلطة في فبراير 2012. استغل الحصانة التي مُنحت له بموجب المبادرة الخليجية، وبقي في اليمن رئيساً لحزب المؤتمر الشعبي العام، واستمر في لعب دور سياسي مؤثر، وإن كان من خلف الكواليس في البداية، وسرعان ما تحول إلى لاعب رئيسي في الصراع الذي تلى المرحلة الانتقالية.

  • عرقلة المرحلة الانتقالية: اتُهم صالح وأنصاره داخل حزب المؤتمر وفي المؤسستين العسكرية والأمنية بالعمل على عرقلة جهود الرئيس الانتقالي عبد ربه منصور هادي وحكومة الوفاق الوطني، وتقويض مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي كان يهدف إلى رسم ملامح مستقبل اليمن.
  • التحالف مع الحوثيين: في تحول دراماتيكي ومفاجئ، نسج صالح تحالفاً تكتيكياً مع أعدائه السابقين، جماعة الحوثي (أنصار الله). استغل الحوثيون حالة الضعف والانقسام في الدولة، وبدعم لوجستي وعسكري من القوات الموالية لصالح، تمكنوا من السيطرة على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، ثم توسعوا للسيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، وأجبروا الرئيس هادي وحكومته على الفرار.
  • الدور في الحرب الأهلية: شكل تحالف صالح والحوثيين طرفاً رئيسياً في الحرب الأهلية التي اندلعت وتصاعدت وتيرتها مع تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية في مارس 2015 لدعم الشرعية الممثلة بالرئيس هادي. ساهمت القوات الموالية لصالح بخبرتها العسكرية والتنظيمية بشكل كبير في صمود هذا التحالف في وجه الضربات الجوية والعمليات البرية.
  • طموحات العودة للسلطة؟: رأى الكثير من المراقبين أن هدف صالح من التحالف مع الحوثيين لم يكن إيديولوجياً، بل كان تكتيكاً براغماتياً يهدف إلى الانتقام من خصومه الذين أطاحوا به في 2011، وإضعافهم، وربما تمهيد الطريق لعودته هو أو أحد أفراد أسرته (ابنه أحمد) إلى السلطة مجدداً.
  • تصدع التحالف: مع مرور الوقت، بدأت الخلافات تظهر وتتصاعد بين جناحي التحالف (صالح/المؤتمر والحوثيين) حول تقاسم السلطة والنفوذ والموارد، وتبادل الطرفان الاتهامات بالخيانة والغدر.

أثبتت هذه المرحلة قدرة علي عبد الله صالح المذهلة على المناورة والبقاء فاعلاً سياسياً حتى بعد سقوطه من الرئاسة. لكن تحالفه غير المتوقع مع الحوثيين، والذي بدا للكثيرين وكأنه "لعب بالنار"، هو ما مهد في النهاية لنهايته المأساوية.

النهاية الدراماتيكية الانقلاب على الحوثيين ومقتله (ديسمبر 2017)

وصلت التوترات المتصاعدة بين علي عبد الله صالح وحلفائه الحوثيين إلى نقطة الانهيار في أواخر عام 2017. بعد أشهر من المناوشات الإعلامية والسياسية والاشتباكات المحدودة بين أنصار الطرفين في صنعاء، اتخذ صالح خطوة جريئة ومفاجئة أدت إلى نهايته.

  • خطاب فك الارتباط: في 2 ديسمبر 2017، وفي خطاب متلفز، أعلن صالح رسمياً فض الشراكة مع الحوثيين، ودعا أنصاره والقوات الموالية له إلى الانتفاض ضدهم في صنعاء والمحافظات الأخرى. كما دعا دول التحالف العربي إلى فتح صفحة جديدة ووقف الحرب، معرباً عن استعداده للحوار.
  • انتفاضة صنعاء: اندلعت اشتباكات عنيفة في العاصمة صنعاء بين القوات الموالية لصالح (الحرس الجمهوري والقوات الخاصة سابقاً) ومسلحي جماعة الحوثي. سيطرت قوات صالح في البداية على بعض المواقع الهامة، وبدا أن ميزان القوى قد يتغير.
  • الرد الحوثي الحاسم: كان رد فعل الحوثيين سريعاً وحاسماً. استطاعوا حشد قواتهم بشكل فعال، وتمكنوا خلال يومين فقط من استعادة السيطرة على معظم المواقع التي خسروها، ومحاصرة صالح وأنصاره في منطقة حدة جنوب صنعاء.
  • مقتل صالح: في 4 ديسمبر 2017، وبينما كان صالح يحاول، وفقاً للروايات المتداولة، مغادرة صنعاء متجهاً إلى مسقط رأسه في سنحان، تعرض موكبه لكمين نصبه مسلحون حوثيون، وتم قتله بالرصاص. انتشرت صور ومقاطع فيديو لجثته، مما أكد الخبر وأحدث صدمة كبيرة في اليمن والمنطقة.
  • التداعيات: أدى مقتل صالح إلى إضعاف كبير لمعسكر المناهضين للحوثيين في صنعاء والمناطق الشمالية، وسمح للحوثيين بتعزيز سيطرتهم بشكل أكبر. كما أدى إلى انقسام وتشرذم حزب المؤتمر الشعبي العام الذي كان صالح يرأسه.

كانت نهاية علي عبد الله صالح دراماتيكية وعنيفة، تتناسب مع مسيرته السياسية الطويلة المليئة بالتحالفات والانقلابات والمخاطر. لقد حاول "الرقص على رؤوس الثعابين" مرة أخيرة، لكن هذه المرة، لدغه أحد الثعابين التي تحالف معها.

الإرث المعقد: تقييم شخصية حكمت اليمن لعقود

يترك علي عبد الله صالح وراءه إرثاً بالغ التعقيد والتناقض، يصعب تقييمه بشكل أحادي الجانب. فهو شخصية طبعت تاريخ اليمن الحديث لعقود طويلة، وإرثه محل انقسام حاد بين اليمنيين، بين من يراه بانيًا وموحدًا، ومن يعتبره مسؤولاً عن الكثير من مآسي البلاد.

  • الإيجابيات والإنجازات (من وجهة نظر أنصاره):
    • تحقيق الوحدة اليمنية: يعتبره الكثيرون مهندس الوحدة عام 1990، وهو إنجاز تاريخي بغض النظر عن مآلاته لاحقاً.
    • الحفاظ على استقرار نسبي (لفترة): نجح في الحفاظ على شكل من أشكال الاستقرار وتجنب الانهيار الكامل للدولة لعقود، في بلد معقد قبلياً وجغرافياً.
    • التحديث والتنمية (بشكل محدود): شهد عهده بعض التطور في البنية التحتية (طرق، كهرباء، اتصالات) وتوسيعاً للتعليم والصحة، وإن كان بوتيرة بطيئة ومحدودة.
    • بناء مؤسسات الدولة الحديثة (شكلياً): أسس حزب المؤتمر الشعبي العام، وأجرى انتخابات رئاسية وبرلمانية تعددية (وإن كانت غالباً شكلية).
    • السياسة الخارجية البراغماتية: استطاع الحفاظ على علاقات معقدة ومتوازنة أحياناً مع القوى الإقليمية والدولية المتنافسة.
  • السلبيات والانتقادات (من وجهة نظر معارضيه):
    • الحكم الأوتوقراطي والفردي: حكم البلاد بقبضة حديدية، وركز السلطة في يديه وفي يد المقربين منه، وقمع المعارضة.
    • الفساد المالي والإداري: استشرى الفساد بشكل واسع في عهده، وتم نهب موارد الدولة لصالح النخبة الحاكمة، مما أدى إلى تفاقم الفقر وتدهور الخدمات.
    • المحسوبية والقبلية: اعتمد بشكل كبير على الولاءات القبلية والمناطقية في بناء نظامه، مما أضعف مؤسسات الدولة وعمق الانقسامات المجتمعية.
    • إدارة الأزمات بالعنف والمناورة: تعامل مع التحديات الأمنية والسياسية (حرب 94، حروب صعدة، الحراك الجنوبي، القاعدة) بالقوة العسكرية والمناورات قصيرة النظر بدلاً من البحث عن حلول سياسية جذرية، مما فاقم الأزمات.
    • محاولة التوريث: سعيه في سنواته الأخيرة لتمهيد الطريق لابنه أحمد لخلافته أثار استياءً واسعاً وكان أحد أسباب اندلاع ثورة 2011.
    • دوره في الحرب الأهلية بعد 2011: تحالفه مع الحوثيين يعتبره الكثيرون خيانة للبلاد ومسؤولية مباشرة عن تدمير مؤسسات الدولة وتفاقم الحرب الأهلية.

الخاتمة: تُطوى صفحة علي عبد الله صالح بمقتله الدراماتيكي في ديسمبر 2017، لتنتهي بذلك مسيرة سياسية استثنائية في طولها وتأثيرها وتعقيدها، هيمنت على المشهد اليمني لأكثر من أربعة عقود. من ضابط شاب صعد إلى السلطة في ظروف غامضة، إلى مهندس للوحدة اليمنية، ثم حاكم أوحد لليمن الموحد لعقدين، فرئيس مخلوع بفعل ثورة شعبية، وصولاً إلى لاعب مؤثر في الحرب الأهلية وحليف لأعداء الأمس، جسد صالح تحولات اليمن وصراعاته وتناقضاته.

لقد كان صالح، بلا شك، شخصية كاريزمية وذات دهاء سياسي فائق، ونجح في "الرقص على رؤوس الثعابين" لفترة أطول من أي زعيم يمني آخر في التاريخ الحديث. لكن هذا الأسلوب نفسه، الذي اعتمد على المناورة والتحالفات المؤقتة وتعميق الانقسامات، هو ما ساهم في نهاية المطاف في إدخال اليمن في دوامة العنف والصراع التي لا تزال مستمرة.

سيظل إرث علي عبد الله صالح محل نقاش وجدل لسنوات قادمة. هل كان بانيًا وموحدًا أم هادمًا ومفرقًا؟ هل كان ضحية للظروف أم صانعًا لها؟ الأرجح أنه كان كل ذلك في آن واحد. لكن المؤكد أنه ترك بصمة لا تُمحى على تاريخ اليمن، وأن فهم مسيرته المعقدة هو مفتاح أساسي لفهم حاضر اليمن ومحاولة استشراف مستقبله.



كـــــارم المرحـبـي
كـــــارم المرحـبـي
تعليقات