محمد محمود الزبيري أبو الأحرار شاعر الثورة وضمير اليمن
في بانثيون عظماء اليمن الحديث، يتبوأ الشاعر والمفكر والمناضل محمد محمود الزبيري (1910-1965) مكانة فريدة ومرموقة، فهو ليس مجرد أديب بارز أثرى المكتبة العربية واليمنية بإبداعاته الشعرية والنثرية، بل هو رمز وطني شامخ، وروح ثورية متقدة، استحق عن جدارة لقب "أبو الأحرار". ارتبط اسمه بالنضال المرير ضد الحكم الإمامي الاستبدادي، وبالسعي الدؤوب من أجل الحرية والعدالة والوحدة الوطنية. كان الزبيري صوت الشعب المقهور، وضمير الأمة الحي، وقلمه سيفاً مسلطاً على الظلم والجهل والتخلف. إن سيرة حياته الحافلة بالتضحيات والسجن والنفي والنضال المستمر، والتي انتهت باغتياله غدراً، تجسد قصة كفاح جيل بأكمله من أجل يمن جديد، يمن الحرية والكرامة. فهم دور محمد محمود الزبيري الأدبي والسياسي هو مفتاح أساسي لفهم جذور الحركة الوطنية اليمنية وتطلعات الشعب اليمني نحو مستقبل أفضل.
![]() |
محمد محمود الزبيري |
يسعى هذا المقال إلى تقديم صورة شاملة وعميقة عن حياة وإرث محمد محمود الزبيري. سنتتبع رحلته منذ نشأته في بيئة علمية تقليدية، مروراً بتكوينه الفكري والأدبي وتفتح وعيه الوطني، وصولاً إلى دوره الريادي في تأسيس حركة "الأحرار اليمنيين" ونضالها ضد الإمامة. سنسلط الضوء على إسهاماته الشعرية والنثرية كأحد أبرز رواد الأدب اليمني الحديث، وكيف سخّر قلمه لخدمة قضايا وطنه وأمته. كما سنحلل مواقفه السياسية ومشاركته في ثورتي 1948 و 1962، ورؤيته لمستقبل اليمن بعد الثورة، ومشروعه للمصالحة الوطنية، وانتهاءً بالظروف الغامضة التي أحاطت باغتياله. سنحاول فهم لماذا استحق لقب "أبو الأحرار"، وما هو الإرث الفكري والسياسي الذي تركه للأجيال اللاحقة في اليمن والعالم العربي.
النشأة والتكوين الفكري والأدبي: بذور الوعي والثورة
ولد محمد محمود الزبيري حوالي عام 1910 في حي "بستان السلطان" بصنعاء القديمة، لأسرة تنتمي إلى طبقة القضاة، وهي طبقة اجتماعية ودينية لها مكانتها في المجتمع اليمني التقليدي. نشأ في بيئة محافظة يسودها العلم الشرعي واللغوي، وتلقى تعليمه الأولي في الكتاتيب والمعاهد الدينية التقليدية في صنعاء، حيث حفظ القرآن الكريم ودرس علوم الفقه واللغة العربية وآدابها على يد عدد من علماء عصره.
أظهر الزبيري نبوغاً مبكراً وميلاً قوياً نحو الأدب والشعر، وبدأ في نظم الشعر في سن مبكرة. لكن بيئة اليمن المنعزلة والمحافظة تحت حكم الأئمة الزيديين، وخاصة الإمام يحيى حميد الدين، كانت تفرض قيوداً شديدة على الفكر والإبداع والاتصال بالعالم الخارجي. كان هذا الانغلاق والتخلف الذي يعيشه اليمن، مقارنة بما بدأ يسمع عنه في أقطار عربية أخرى، من أهم العوامل التي أيقظت وعي الزبيري ورفاقه وبدأت تثير تساؤلاتهم حول ضرورة التغيير والإصلاح.
كان لسفره إلى مصر للدراسة في مطلع الأربعينيات (وإن كانت تفاصيل هذه الفترة غير مؤكدة تماماً وتحتاج لمزيد من البحث) أو احتكاكه بالأفكار الإصلاحية والوطنية القادمة من الخارج، دور هام في توسيع مداركه وتعميق وعيه السياسي والاجتماعي. اطلع على تيارات الفكر العربي الحديث، والحركات الوطنية المناهضة للاستعمار والتخلف، وتأثر بشعراء المهجر والأدب العربي الحديث الداعي إلى النهضة والتغيير.
بدأ قلمه يأخذ منحىً وطنياً ونقدياً، موجهاً سهامه نحو مظاهر الظلم والجهل والاستبداد التي كان يراها في حكم الإمامة. أصبح الشعر بالنسبة له، كما للعديد من المثقفين اليمنيين آنذاك، وسيلة للتعبير عن آلام الشعب وتطلعاته، وأداة للتحريض على الثورة والتغيير. شكلت هذه المرحلة المبكرة، بمزيجها من التكوين الديني التقليدي والانفتاح على الأفكار الحديثة، الأساس الفكري والأدبي لشخصية محمد محمود الزبيري الفريدة، وهيأت لظهوره كقائد فكري وروحي للحركة الوطنية اليمنية.
أبو الأحرار رمزية اللقب ودلالاته العميقة
لم يأتِ لقب "أبو الأحرار" الذي أُطلق على محمد محمود الزبيري من فراغ، بل هو تجسيد لمسيرة حياة كاملة كرسها للنضال من أجل حرية وكرامة وطنه وشعبه. يحمل هذا اللقب دلالات عميقة تتجاوز مجرد التقدير لشخصه، لتعبر عن قيم ومبادئ ومراحل تاريخية هامة في نضال اليمنيين.
أولاً، يشير اللقب إلى دوره الأبوي والرائد في تأسيس وتنظيم وتوجيه حركة "الأحرار اليمنيين"، وهي أول حركة معارضة منظمة ضد حكم الإمامة في اليمن. كان الزبيري، إلى جانب رفيق دربه أحمد محمد نعمان، بمثابة الأب الروحي والفكري لهذه الحركة التي ضمت نخبة من المثقفين والضباط والتجار والشباب الطامحين للتغيير. لقد وضعوا الأسس الفكرية والسياسية للمعارضة، وعملوا على نشر الوعي وتوحيد الصفوف لمواجهة الاستبداد.
ثانياً، يعكس اللقب نضاله المستمر الذي لا يلين من أجل الحرية بكافة أشكالها: الحرية من الاستبداد السياسي للحكم الإمامي، والحرية من الجهل والتخلف الاجتماعي، والحرية من العزلة والانغلاق عن العالم. كان الزبيري يؤمن بأن حرية الإنسان هي القيمة الأسمى، وأن بناء يمن حديث ومزدهر لا يمكن أن يتم إلا بتحرير العقول والأرض معاً. شعره ونثره ومواقفه السياسية كلها كانت صرخة مدوية من أجل هذه الحرية.
ثالثاً، يرمز لقب "أبو الأحرار" إلى التضحيات الجسيمة التي قدمها الزبيري في سبيل مبادئه. فقد تعرض للسجن بعد ثورة 1948 الفاشلة، وعاش سنوات طويلة في المنفى بعيداً عن وطنه وأهله، وواجه المخاطر والتهديدات باستمرار، وختم حياته شهيداً لقضيته عندما اغتالته يد الغدر وهو يسعى للمصالحة بين أبناء الوطن الواحد. هذه التضحيات جعلت منه نموذجاً للمناضل الصلب الذي لا يساوم على مبادئه، وأباً روحياً لكل الأحرار الساعين للتغيير.
أخيراً، أصبح لقب "أبو الأحرار" يمثل بعد استشهاده رمزاً وطنياً جامعاً لليمنيين، يذكرهم بتطلعات جيل الرواد نحو بناء دولة مدنية حديثة تقوم على أسس الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية والوحدة الوطنية الحقيقية. إنه لقب يختزل قصة كفاح شعب بأكمله من أجل التحرر والانعتاق، ويجسد قيم النزاهة والوطنية والتضحية التي مثلها محمد محمود الزبيري خير تمثيل.
الدور الريادي في الحركة الوطنية اليمنية
كان محمد محمود الزبيري في طليعة رواد الحركة الوطنية اليمنية الحديثة، ولعب دوراً تأسيسياً وقيادياً لا يمكن إغفاله في النضال ضد حكم الإمامة ومن أجل بناء يمن جديد. لم يكن مجرد منظر أو شاعر ملهم، بل كان منظماً سياسياً ومشاركاً فاعلاً في الأحداث المفصلية.
- تأسيس حركة الأحرار اليمنيين: في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات، ومع تزايد الوعي بضرورة التغيير، ساهم الزبيري بشكل رئيسي، بالتعاون مع صديقه ورفيق دربه الأستاذ أحمد محمد نعمان وشخصيات وطنية أخرى، في تشكيل النواة الأولى لحركة المعارضة المنظمة ضد حكم الإمام يحيى، والتي عُرفت لاحقاً بـ "حركة الأحرار اليمنيين". هدفت الحركة إلى نشر الوعي، والمطالبة بالإصلاحات، والعمل من أجل إقامة حكم دستوري يحد من السلطات المطلقة للإمام.
- المشاركة في ثورة الدستور (1948): كان الزبيري من أبرز القيادات الفكرية والسياسية التي شاركت في الإعداد والدعاية لثورة 1948، والتي نجحت في اغتيال الإمام يحيى وتشكيل حكومة دستورية برئاسة عبد الله الوزير لفترة وجيزة. على الرغم من فشل الثورة السريع وعودة الحكم الإمامي بقوة تحت قيادة الإمام أحمد، إلا أنها شكلت هزة عنيفة للنظام وأثبتت وجود تيار وطني معارض قوي.
- تجربة السجن (سجن حجة): بعد فشل ثورة 1948، تم اعتقال الزبيري مع المئات من قادة وكوادر الأحرار، وأودعوا في سجن حجة الرهيب لسنوات طويلة (حوالي سبع سنوات). كانت تجربة السجن قاسية، لكنها لم تكسر عزيمته، بل زادته صلابة وإصراراً على مواصلة النضال. خلال فترة سجنه، واصل كتابة الشعر والتأمل في قضايا الوطن، وخرج منه أكثر تصميماً على التغيير. قصيدته الشهيرة "صلاة في الجحيم" تعكس جزءاً من هذه التجربة المريرة.
- النضال من المنفى: بعد إطلاق سراحه، ومع استمرار التضييق عليه، اضطر الزبيري للتوجه إلى المنفى، متنقلاً بين عدن والقاهرة وكراتشي وغيرها. من منفاه، واصل نشاطه السياسي والأدبي، وأصبح صوتاً قوياً للمعارضة اليمنية في الخارج. ساهم في تأسيس تنظيمات للمعارضة، وأصدر صحفاً ومنشورات، وألقى الخطب، وكتب المقالات والقصائد التي تفضح ممارسات نظام الإمامة وتدعو الشعب اليمني إلى الثورة.
- استخدام الكلمة كسلاح: آمن الزبيري بقوة الكلمة ودورها في التغيير. سخّر موهبته الأدبية الفذة لخدمة قضيته الوطنية. كانت قصائده بمثابة بيانات سياسية ونداءات للثورة، تنتشر سراً بين الناس في اليمن وتشعل حماسهم وتوقظ وعيهم. كانت مقالاته تحليلاً عميقاً للأوضاع ودعوة للإصلاح. لقد كان بحق "شاعر الثورة" الذي مهد لها الطريق بكلماته الملتهبة.
إن الدور الريادي لمحمد محمود الزبيري في الحركة الوطنية يتجاوز مجرد المشاركة في الأحداث، فهو يمثل الضمير الفكري والروحي لهذه الحركة، والمحرك الأساسي الذي ألهم جيلاً كاملاً من اليمنيين للنضال من أجل مستقبل أفضل لوطنهم.
الزبيري شاعراً: صوت الثورة وضمير الأمة
لا يمكن فصل الدور السياسي لـمحمد محمود الزبيري عن دوره كشاعر وأديب، فقد كان شعره هو السلاح الأقوى الذي امتلكه في معركته ضد الاستبداد والتخلف. يُعتبر الزبيري أحد أبرز شعراء اليمن في العصر الحديث، ورائداً من رواد الشعر الوطني والثوري في العالم العربي.
- شعر القضية الوطنية: كان شعر الزبيري ملتزماً بقضايا وطنه بشكل أساسي. دارت معظم قصائده حول فضح ظلم واستبداد حكم الإمامة، ووصف معاناة الشعب اليمني تحت وطأة الجهل والفقر والمرض، والدعوة الصريحة إلى الثورة والتغيير. لقد حول الشعر من مجرد تعبير عن المشاعر الذاتية إلى أداة للنضال الجماعي وتحريك الوعي العام.
- التحريض والثورة: تميز شعره بنبرة تحريضية قوية وحماسية. استخدم لغة مباشرة ونارية لمخاطبة الشعب وحثه على كسر قيود الخوف والصمت والمطالبة بحقوقه. قصائده مثل "إلى الشعب"، "صرخة"، "يا ثورة" وغيرها كانت بمثابة نداءات مباشرة للانتفاض ضد الظلم.
- الرؤية المستقبلية: لم يقتصر شعر الزبيري على نقد الواقع المرير، بل قدم أيضاً رؤية لمستقبل اليمن المنشود: يمن الحرية والعدالة والعلم والوحدة. تغنى بأمجاد اليمن التاريخية وحضارته العريقة كحافز لاستنهاض الهمم وبناء مستقبل مشرق.
- الأسلوب الفني: جمع الزبيري في شعره بين الأصالة والمعاصرة. حافظ على قوة اللغة العربية ومتانة الأسلوب وجزالة الألفاظ المستمدة من التراث، لكنه وظفها للتعبير عن قضايا وهموم عصره بلغة مؤثرة وواضحة، قريبة من فهم الجماهير. تميز شعره بالصدق العاطفي وقوة التصوير والقدرة على التأثير الوجداني.
- أشهر الأعمال: ترك الزبيري عدة دواوين شعرية ونثرية هامة، من أبرزها ديوان "ثورة الشعر" الذي يضم قصائده الوطنية والثورية، وديوان "صلاة في الجحيم" الذي يعكس تجربته في سجن حجة، بالإضافة إلى كتاباته النثرية ومقالاته التي نشرها في صحف المعارضة.
- تأثيره الأدبي: يُعد الزبيري مدرسة شعرية بحد ذاتها في اليمن. ألهم شعره أجيالاً من الشعراء والأدباء اليمنيين والعرب، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من التراث الأدبي الوطني. لا تزال قصائده تتلى وتحفظ وتتردد في المناسبات الوطنية، شاهدة على قوة تأثيره واستمرارية رسالته.
لقد كان محمد محمود الزبيري شاعراً استثنائياً، استطاع أن يمزج بين الإبداع الفني والالتزام الوطني، وأن يجعل من كلماته صوتاً مدوياً لشعبه، وضميراً حياً لأمته، ومنارة تضيء دروب الساعين إلى الحرية والكرامة.
المشاركة في ثورة 26 سبتمبر وما بعدها: آمال وخيبات
بعد سنوات طويلة من النضال والدعوة للثورة من المنفى، عاد محمد محمود الزبيري إلى اليمن فور اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بالنظام الملكي وأعلنت قيام الجمهورية العربية اليمنية. كانت عودته مليئة بالآمال والتطلعات نحو بناء الدولة اليمنية الحديثة التي طالما حلم بها وناضل من أجلها.
- العودة والمشاركة في التأسيس: استُقبل الزبيري بحفاوة بالغة كأحد أبرز رموز النضال الوطني. شارك في الجهود الأولى لتأسيس الدولة الوليدة، وعُين في مناصب وزارية هامة في الحكومات المتعاقبة، منها وزير المعارف (التربية والتعليم) ووزير الإعلام ونائب لرئيس الوزراء، بالإضافة إلى عضويته في مجلس قيادة الثورة والمكتب السياسي. سعى من خلال هذه المناصب إلى المساهمة في بناء مؤسسات الدولة ونشر التعليم وترسيخ قيم الجمهورية.
- الحرص على استقلالية القرار الوطني: مع اندلاع الحرب الأهلية والتدخل العسكري المصري لدعم الجمهورية، بدأ الزبيري يشعر بالقلق المتزايد من حجم النفوذ المصري وتأثيره على استقلالية القرار اليمني. كان يؤمن بضرورة الاعتماد على الذات وبناء جيش وطني قوي، والسعي لحل الخلافات الداخلية بالحوار بدلاً من الاعتماد الكلي على الدعم الخارجي.
- الانتقاد من الداخل: لم يتردد الزبيري، رغم كونه جزءاً من السلطة، في توجيه النقد البناء لبعض الممارسات الخاطئة داخل المعسكر الجمهوري، مثل الصراعات على السلطة، وتهميش بعض الكفاءات، والفساد، والانجراف نحو الاستقطاب الحاد. كان يدعو إلى الحفاظ على أهداف الثورة وقيمها العليا.
- خيبة الأمل وتعمق الخلافات: بمرور الوقت، ومع استمرار الحرب الأهلية وتزايد الانقسامات داخل الصف الجمهوري، بدأت خيبة الأمل تتسرب إلى نفس الزبيري. رأى أن الثورة بدأت تنحرف عن مسارها، وأن الصراع على السلطة والنفوذ يهدد بتدمير البلاد. تعمقت خلافاته مع بعض قيادات النظام، وخاصة الجناح العسكري الأكثر تشدداً وارتباطاً بالمخابرات المصرية.
- الاستقالة والبحث عن مخرج: أدت هذه الخلافات وخيبات الأمل المتزايدة إلى استقالة الزبيري من مناصبه الحكومية، وتفرغه للبحث عن مخرج وطني للأزمة من خلال الدعوة إلى المصالحة الوطنية وتشكيل جبهة وطنية عريضة تتجاوز الانتماءات الضيقة.
شكلت الفترة التي أعقبت ثورة سبتمبر بالنسبة لـمحمد محمود الزبيري مزيجاً من تحقيق الحلم الذي ناضل من أجله (قيام الجمهورية)، وخيبة الأمل من واقع ما بعد الثورة الذي لم يكن كما تمناه. لقد واجه معضلة المثقف الثائر الذي يجد نفسه في السلطة ويصطدم بتعقيدات الواقع وصراعات السياسة، لكنه ظل متمسكاً بمبادئه ورؤيته لوطن حر ومستقل وموحد.
مشروع حزب الله والمصالحة الوطنية: رؤية لإنقاذ الوطن
في خضم الحرب الأهلية الطاحنة والانقسامات الحادة التي عصفت باليمن بعد ثورة 1962، ومع شعوره بخيبة الأمل من أداء السلطة الجمهورية وتزايد النفوذ الأجنبي، طرح محمد محمود الزبيري مشروعاً سياسياً طموحاً وجريئاً لإنقاذ البلاد وتحقيق المصالحة الوطنية، وهو المشروع الذي عرف إعلامياً بـ"حزب الله". من المهم فهم هذا المشروع في سياقه التاريخي بعيداً عن الدلالات المعاصرة للمصطلح.
- سياق المشروع: جاء طرح المشروع في فترة حرجة (حوالي عام 1964-1965) كانت فيها الحرب الأهلية مستعرة، والانقسام داخل المعسكر الجمهوري عميقاً، والنفوذ المصري والسعودي متعاظماً، ومستقبل اليمن كدولة موحدة ومستقلة على المحك. رأى الزبيري أن الحل لا يكمن في استمرار الحرب أو هيمنة فئة على أخرى، بل في المصالحة الوطنية الشاملة.
- فكرة "حزب الله": لم يكن المقصود بالمصطلح حزباً دينياً طائفياً بالمعنى الحديث، بل كان، حسب طرح الزبيري ورفاقه، يهدف إلى إنشاء جبهة وطنية عريضة أو حركة شعبية تضم كل "المؤمنين بالله واليمن" من مختلف التيارات السياسية والاجتماعية والقبلية (جمهوريين وملكيين معتدلين ومستقلين)، ليكونوا "حزب الله" بمعناه القرآني الواسع (أي أنصار الحق والعدل) في مواجهة "حزب الشيطان" (المتمثل في قوى الفرقة والعمالة للخارج والفساد والاستبداد). كان الهدف هو تجاوز الانقسامات الحزبية والفئوية والقبلية الضيقة لصالح هدف أسمى هو إنقاذ الوطن.
- الأهداف الرئيسية للمشروع:
- وقف الحرب الأهلية وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة.
- إنهاء التدخلات الأجنبية (المصرية والسعودية وغيرها) في الشأن اليمني.
- بناء دولة يمنية مستقلة ذات سيادة حقيقية.
- إقامة نظام حكم مدني يقوم على العدل والشورى والمساواة والمواطنة.
- محاربة الفساد والمحسوبية والقبلية المتطرفة.
- توحيد جهود اليمنيين من أجل البناء والتنمية.
- التحرك العملي: لم يقتصر الزبيري على التنظير، بل بدأ بالتحرك عملياً لتجسيد مشروعه. استقال من مناصبه الحكومية، وتوجه إلى المناطق القبلية في شمال اليمن (مثل برط) محاولاً حشد الدعم لمبادرته، والتوسط بين القبائل، والدعوة إلى مؤتمر وطني للمصالحة.
- المعارضة والمخاطر: واجه مشروع الزبيري معارضة وريبة من أطراف متعددة. لم ترتح له القيادة المصرية التي رأت فيه محاولة للالتفاف على نفوذها. كما تخوف منه بعض المتشددين في المعسكر الجمهوري الذين رفضوا أي مصالحة مع الملكيين. وربما رأى فيه الملكيون أو داعموهم تهديداً أيضاً. كان تحركه في مناطق قبلية خارج سيطرة الدولة محفوفاً بالمخاطر الأمنية.
يمثل مشروع "حزب الله" أو مشروع المصالحة الوطنية الذي قاده محمد محمود الزبيري ذروة نضجه السياسي ورؤيته الوطنية الشاملة. لقد كان محاولة جريئة ومخلصة لانتشال اليمن من أتون الحرب والانقسام، حتى وإن بدت مثالية أو صعبة التحقيق في ظل تلك الظروف المعقدة. لكن هذه المحاولة نفسها هي التي كلّفته حياته في نهاية المطاف.
الاغتيال الغامض ونهاية أبي الأحرار أبريل 1965
شكل اغتيال محمد محمود الزبيري في الأول من أبريل عام 1965 صدمة كبرى لليمنيين وصفعة قاسية لآمال المصالحة والسلام. جاءت نهاية "أبي الأحرار" غادرة ومفاجئة، بينما كان في خضم تحركاته الميدانية لتجسيد رؤيته الوطنية، ولا تزال الظروف الدقيقة المحيطة باغتياله وملابساته محل جدل وتكهنات حتى اليوم.
- السياق والمكان: كان الزبيري قد توجه إلى منطقة برط في محافظة الجوف (شمال شرق صنعاء)، وهي منطقة ذات نفوذ قبلي قوي وتقع على خطوط التماس بين الجمهوريين والملكيين. كان هدفه عقد لقاءات مع زعماء القبائل وشخصيات من مختلف الأطراف لإقناعهم بمشروعه للمصالحة الوطنية وعقد مؤتمر وطني جامع بعيداً عن نفوذ العاصمة والتدخلات الخارجية.
- حادثة الاغتيال: في يوم الجمعة الأول من أبريل 1965، وبينما كان الزبيري يتنقل في منطقة "وادي أملح" ببرط برفقة عدد قليل من مرافقيه، تعرض لإطلاق نار غادر من كمين مسلح. أصيب إصابات بليغة أودت بحياته على الفور، كما قُتل معه بعض مرافقيه.
- غموض الجناة والدوافع: لم يتم حتى اليوم تحديد الجهة المسؤولة عن اغتيال الزبيري بشكل قاطع ومؤكد، وظل الحادث يكتنفه الغموض. تعددت الاتهامات والتكهنات، وأشارت أصابع الاتهام إلى أطراف مختلفة:
- الملكيون: اتهمهم البعض بتدبير الاغتيال للتخلص من شخصية وطنية بارزة تسعى لتوحيد الصف الجمهوري وربما سحب البساط من تحت أقدامهم عبر مصالحة لا تخدم مصالحهم بالكامل.
- المخابرات المصرية والمتشددون الجمهوريون: اتهمهم آخرون بالوقوف وراء الاغتيال، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، للتخلص من صوت وطني مستقل كان ينتقد النفوذ المصري ويسعى لمصالحة قد تضر بمصالحهم أو بموقفهم المتشدد الرافض للحوار مع الملكيين.
- قوى قبلية محلية: لم تستبعد بعض التحليلات تورط قوى قبلية محلية لها حساباتها الخاصة أو مرتبطة بأحد أطراف الصراع الرئيسية.
- مؤامرة مركبة: يرى البعض أن الاغتيال كان نتيجة مؤامرة مركبة تقاطعت فيها مصالح أطراف متعددة داخلية وخارجية كانت ترى في مشروع الزبيري تهديداً لها.
- الأثر والتداعيات: شكل اغتيال الزبيري خسارة فادحة لليمن. لقد فقدت البلاد قائداً فكرياً وسياسياً نزيهاً ومخلصاً، وصوتاً وطنياً جامعاً كان يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تحقيق المصالحة وإنهاء الحرب. أدى اغتياله إلى زيادة حالة الانقسام والاحتقان، وإضعاف التيار الداعي إلى السلام والحوار، وترك فراغاً كبيراً في الساحة السياسية والفكرية اليمنية.
إن اغتيال "أبي الأحرار" لم يكن مجرد إنهاء لحياة رجل، بل كان اغتيالاً لمشروع وطني كان اليمن في أمس الحاجة إليه. ورغم مرور عقود طويلة، لا تزال ذكراه حاضرة كرمز للتضحية من أجل الوطن، ولا يزال الغموض الذي يلف اغتياله جرحاً مفتوحاً في الذاكرة اليمنية.
الإرث الفكري والسياسي لـ أبي الأحرار
على الرغم من أن حياة محمد محمود الزبيري انتهت بشكل مأساوي عام 1965، إلا أن إرثه الفكري والسياسي والأدبي ظل حياً ومؤثراً، وشكل منارة للأجيال اللاحقة من اليمنيين الباحثين عن الحرية والعدالة والوحدة الوطنية.
- الإرث الأدبي:
- شعر الثورة والوطنية: يعتبر الزبيري الأب الروحي للشعر الوطني الحديث في اليمن. قصائده الملتهبة التي تدعو للثورة وتحارب الظلم وتتغنى بالوطن لا تزال تُحفظ وتُردد وتُلهم الكثيرين.
- التجديد الشعري: ساهم في تجديد لغة ومضامين الشعر اليمني، ونقله من الأغراض التقليدية إلى التعبير عن هموم وقضايا المجتمع والوطن.
- النثر والمقالة: لم يقتصر إبداعه على الشعر، بل ترك أيضاً كتابات نثرية ومقالات سياسية وفكرية هامة تعكس عمق تحليله ورؤيته الإصلاحية.
- الإرث الفكري والسياسي:
- رمز النضال الوطني: أصبح الزبيري رمزاً للنضال ضد الاستبداد ومن أجل التحرر الوطني. سيرته وتضحياته تمثل نموذجاً للمثقف الملتزم والمناضل الصلب.
- الدعوة للدولة المدنية: كان من أوائل الداعين إلى إقامة دولة مدنية حديثة في اليمن تقوم على أسس الدستور والمواطنة المتساوية والمؤسسات، بعيداً عن الحكم الثيوقراطي أو العسكري أو القبلي المتطرف.
- رائد المصالحة الوطنية: يعتبر مشروع الزبيري للمصالحة الوطنية ورؤيته لجمع اليمنيين تحت مظلة وطنية جامعة (بعيداً عن التسمية المثيرة للجدل "حزب الله") إرثاً سياسياً هاماً لا يزال يكتسب أهمية خاصة في ظل الصراعات المعاصرة التي تعصف باليمن.
- استقلالية القرار الوطني: كان الزبيري وطنياً غيوراً حريصاً على استقلالية القرار اليمني ورفض التبعية أو التدخلات الخارجية، وهو مبدأ لا يزال يتردد صداه.
- النزاهة والزهد: عُرف بالنزاهة والزهد في المناصب والسلطة، حيث قدم استقالته عندما شعر بالخلاف مع التوجهات السائدة، وفضل العمل من خارج السلطة لتحقيق رؤيته، مما أكسبه احتراماً وتقديراً واسعاً.
- التأثير المستمر:
- لا يزال اسم الزبيري ولقبه "أبو الأحرار" يتردد في الخطاب السياسي والثقافي اليمني كمرجعية وطنية وقيمية.
- تُلهم سيرته وأشعاره الشباب اليمني وتدفعهم نحو المطالبة بالحقوق والحريات.
- تُدرس أعماله الأدبية والفكرية في المناهج الدراسية والجامعات.
- تُقام الندوات والمؤتمرات لإحياء ذكراه وتسليط الضوء على أفكاره ورؤاه التي لا تزال تحمل الكثير من الراهنية.
الخاتمة: يصعب اختزال حياة ومسيرة محمد محمود الزبيري "أبو الأحرار" في بضعة سطور، فهو شخصية متعددة الأبعاد جمعت بين وهج الشاعر، وعمق المفكر، وصلابة المناضل، ونزاهة السياسي. لقد عاش حياة حافلة كرسها لوطنه اليمن، وناضل بلا هوادة ضد الاستبداد والجهل والتخلف، ودفع حياته ثمناً لمبادئه ورؤيته لوطن حر وموحد ومستقل.
منذ بواكير وعيه الوطني وتأسيسه لحركة الأحرار، مروراً بتجربة السجن والنفي، وصولاً إلى دوره في ثورة سبتمبر ومحاولاته الجادة لتحقيق المصالحة الوطنية، كان الزبيري دائماً في قلب الأحداث، صوتاً للحق، وضميراً للأمة. شعره كان سلاحه، وكلماته كانت وقود الثورة، ومواقفه كانت نبراساً للوطنية الصادقة.
ورغم أن يد الغدر والخيانة تمكنت من إسكات صوته الجسدي في ربيع عام 1965، إلا أن إرث "أبي الأحرار" الفكري والأدبي والسياسي ظل حياً وخالداً. لا تزال أشعاره تتردد، وأفكاره حول الدولة المدنية والمصالحة الوطنية تكتسب راهنية متجددة في ظل التحديات التي يواجهها اليمن اليوم. سيظل محمد محمود الزبيري رمزاً وطنياً ملهماً، وشاهداً على أن قوة الكلمة الصادقة وإرادة الأحرار قادرة على اختراق جدران الصمت وقهر قيود الظلم، حتى وإن كان الثمن هو الحياة نفسها.