من أقدم حضارة اليمن أم السعودية؟

من أقدم حضارة اليمن أم السعودية؟

رحلة في أعماق تاريخ الجزيرة العربية

تزخر منطقة شبه الجزيرة العربية بتاريخ ضارب في القدم، حيث كانت مهدًا لحضارات عريقة وممراً حيوياً لطرق التجارة العالمية القديمة. وعند الحديث عن هذا الإرث العظيم، يثور تساؤل مهم يشغل بال الكثيرين من المهتمين بالتاريخ: من الأقدم حضارة، اليمن أم السعودية؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال ليست مجرد مقارنة بين دولتين حديثتين، بل هي غوص في أعماق التاريخ لاستكشاف الجذور الحضارية للمناطق التي تشكل اليوم هاتين الدولتين. يتطلب الأمر فحص الأدلة الأثرية والنقوش والكتابات التاريخية لفهم تطور المجتمعات وظهور الممالك والدول المنظمة في مختلف أنحاء شبه الجزيرة. هذا المقال يسعى لاستعراض أبرز الشواهد الحضارية في كلا المنطقتين، ومناقشة التحديات التي تواجه تحديد "الأقدم" بشكل قاطع، وتقديم رؤية متوازنة حول الإرث الحضاري المشترك والمتنوع للجزيرة العربية.
من أقدم حضارة اليمن أم السعودية؟
من أقدم حضارة اليمن أم السعودية؟

إن مفهوم "الحضارة" بحد ذاته مفهوم مرن، قد يشير إلى الاستيطان البشري المبكر، أو ظهور الزراعة، أو نشوء المدن والدول المنظمة، أو تطور الكتابة والفنون. شهدت أراضي المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية الحالية كل هذه المراحل بدرجات متفاوتة وفي أزمنة مختلفة عبر مناطقها الشاسعة. اشتهرت اليمن تاريخيًا بلقب "العربية السعيدة" (Arabia Felix) نظرًا لخصوبة أراضيها الجنوبية التي دعمت قيام ممالك قوية ومستقرة مثل سبأ وحمير، وازدهارها اعتمادًا على الزراعة والتجارة، خاصة تجارة البخور واللبان والمر. في المقابل، لعبت المناطق التي تشكل السعودية اليوم أدوارًا محورية كصلة وصل بين الحضارات الكبرى، وشهدت قيام ممالك ودول مهمة في واحاتها الشمالية والغربية (مثل لحيان والأنباط) ومناطقها الشرقية (مثل حضارة دلمون)، كما كانت موطنًا لثقافات ومجتمعات متنوعة عبر تاريخها الطويل.

حضارات اليمن القديمة أرض سبأ وبلقيس وحمير

عندما نتحدث عن الحضارات المبكرة ذات التنظيم الدولتي المتقدم في شبه الجزيرة العربية، غالبًا ما تتجه الأنظار نحو جنوب الجزيرة، وتحديدًا اليمن. الأدلة الأثرية والنقشية تشير إلى تاريخ حضاري موغل في القدم، يتميز بالاستقرار الزراعي، والتنظيم السياسي المعقد، والإنجازات المعمارية والهندسية البارزة.
  1. تعود بدايات الاستيطان البشري في اليمن إلى عصور ما قبل التاريخ، لكن ما يميز تاريخها القديم هو بزوغ نجم الممالك اليمنية القديمة أو "ممالك العربية الجنوبية" التي ازدهرت بشكل رئيسي اعتبارًا من الألف الأول قبل الميلاد وربما قبل ذلك. أشهر هذه الممالك هي:
  2. مملكة سبأ: التي تُعد أشهر وأقوى هذه الممالك، وعاصمتها الرئيسية مأرب. ارتبطت سبأ بالملكة الأسطورية بلقيس (وإن كانت الشخصية التاريخية الدقيقة محل نقاش). سيطرت سبأ لفترات طويلة على أجزاء واسعة من طرق التجارة القديمة، خاصة تجارة اللبان والمر التي كانت ذات قيمة اقتصادية ودينية هائلة في العالم القديم. أبرز شواهد حضارة سبأ هو سد مأرب العظيم، وهو إنجاز هندسي فريد في زمانه يدل على تطور هائل في أنظمة الري والزراعة وقدرة الدولة على حشد الموارد وتنظيم العمل الجماعي. يعود تاريخ بناء السد أو مراحله الأولى إلى الألف الأول قبل الميلاد وربما قبل ذلك. تركت سبأ وراءها آلاف النقوش المكتوبة بخط المسند، والتي توفر معلومات قيمة عن تاريخها السياسي والديني والاجتماعي.
  3. مملكة معين: مملكة تجارية مهمة أخرى ازدهرت في منطقة الجوف شمال سبأ، وعاصمتها "قرناو" (معين حاليًا). تنافست معين مع سبأ في السيطرة على طرق التجارة، وأسست مستوطنات ومراكز تجارية في شمال الجزيرة العربية وحتى في مصر.
  4. مملكة قتبان: تمركزت في منطقة وادي بيحان، وعاصمتها تمنع. اشتهرت قتبان أيضًا بسيطرتها على جزء من طرق تجارة البخور، وتركت نقوشًا وآثارًا مهمة تدل على تطورها.
  5. مملكة حضرموت: امتدت على طول الساحل الجنوبي لليمن، وعاصمتها شبوة. لعبت دورًا رئيسيًا في إنتاج وتصدير اللبان، وكانت لها صلات تجارية بحرية واسعة مع الهند وشرق إفريقيا.
  6. لاحقًا، وفي القرون القليلة التي سبقت وبعد الميلاد، برزت مملكة حمير التي تمكنت من توحيد معظم هذه الممالك تحت سيطرتها، واتخذت من ظفار عاصمة لها. شهدت الفترة الحميرية تحولات دينية مهمة، بما في ذلك اعتناق بعض ملوكها لليهودية ثم لاحقًا ظهور المسيحية. استمرت حمير كقوة رئيسية حتى تعرضت المنطقة للغزو الحبشي ثم الفارسي قبيل ظهور الإسلام.
إن وجود هذه الممالك المنظمة ذات الأنظمة السياسية المعقدة، والإنجازات الهندسية الضخمة، والاستخدام الواسع للكتابة (خط المسند) منذ الألف الأول قبل الميلاد، يقدم دليلاً قويًا على عمق الجذور الحضارية للدولة والمجتمع المنظم في منطقة اليمن الحالية.

شواهد الحضارة في شبه الجزيرة العربية (السعودية حالياً)

تمثل أراضي المملكة العربية السعودية اليوم مساحة شاسعة ومتنوعة جغرافيًا وثقافيًا، وقد شهدت بدورها تطورات حضارية مهمة عبر آلاف السنين، وإن كانت في أجزاء كثيرة منها اتخذت طابعًا مختلفًا عن ممالك الجنوب الزراعية المستقرة.
  • العصور الحجرية: تدل الاكتشافات الأثرية الحديثة على أن شبه الجزيرة العربية كانت منطقة حيوية خلال العصور الحجرية القديمة والحديثة. تعتبر الرسوم الصخرية في منطقتي جبة والشويمس بمنطقة حائل (المدرجة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي) من أغنى وأقدم مواقع الفن الصخري في العالم، حيث تصور مشاهد للصيد والحيوانات والبشر تعود لآلاف السنين (العصر الحجري الحديث والعصر النحاسي)، وتقدم لمحة نادرة عن حياة المجتمعات التي استوطنت المنطقة في تلك الفترة المبكرة وتكيفت مع التغيرات المناخية. كما تم اكتشاف أدوات حجرية وبقايا استيطان تعود للعصر الحجري القديم في مواقع متعددة.
  • موقع المقر: اكتشاف مثير للجدل في وسط المملكة العربية السعودية، يُعتقد أنه يعود إلى حوالي 9000 عام قبل الحاضر. يشتهر الموقع بالعثور على تماثيل لخيول، مما دفع البعض إلى طرح نظرية مبكرة عن استئناس الخيل في الجزيرة العربية في تلك الفترة، وهو ما يجعله ذا أهمية حضارية كبيرة إذا تم تأكيد هذه الفرضية بشكل قاطع.
  • حضارة دلمون: على الرغم من أن مركزها الرئيسي يعتقد أنه كان في جزيرة البحرين الحالية، إلا أن نفوذ وامتداد حضارة دلمون (التي ازدهرت بشكل رئيسي في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد) شمل أجزاء واسعة من الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية الحالية، وخاصة جزيرة تاروت ومحيطها. كانت دلمون مركزًا تجاريًا مهمًا يربط بين بلاد الرافدين وحضارة وادي السند، وتدل الآثار المكتشفة على وجود مجتمع منظم ذي ثقافة مميزة.
  • ممالك الواحات الشمالية والغربية: شهدت الواحات الخصبة في شمال وغرب المملكة قيام ممالك ودول مدن مهمة لعبت دورًا محوريًا على طرق التجارة القديمة، خاصة طريق البخور القادم من الجنوب.
  • تيماء: واحة تاريخية عريقة كانت مركزًا مهمًا منذ الألف الأول قبل الميلاد على الأقل، ووصلت لأوج ازدهارها عندما اتخذها الملك البابلي نبونيد (القرن السادس قبل الميلاد) مقرًا له لعشر سنوات.
  • دادان ولحيان: قامت مملكة دادان ثم خلفتها مملكة لحيان في واحة العلا حاليًا، وازدهرت المملكتان بشكل كبير خلال الألف الأول قبل الميلاد وحتى القرون الأولى الميلادية. ترك اللحيانيون آثارًا مهمة تشمل المقابر المنحوتة في الصخور والمعابد والنقوش.
  • الأنباط: أشهر الحضارات التي ارتبطت بشمال غرب الجزيرة العربية، وإن كانت عاصمتهم البتراء تقع في الأردن حاليًا. أسس الأنباط مدينة الحِجر (مدائن صالح حاليًا، والمدرجة ضمن قائمة اليونسكو) كمركز جنوبي رئيسي لهم، وتشتهر بمقابرها الضخمة المنحوتة في واجهات الجبال الصخرية، والتي تعكس ثراءهم وقوتهم المستمدة من السيطرة على طرق التجارة بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي.
  • مملكة كندة: في وسط الجزيرة العربية (منطقة نجد)، برزت مملكة كندة في القرون التي سبقت الإسلام (القرن الخامس والسادس الميلاديين تقريبًا)، ولعبت دورًا سياسيًا وعسكريًا مهمًا، وامتد نفوذها على أجزاء واسعة من وسط وشرق الجزيرة. ارتبطت كندة بالشعر العربي الجاهلي وشخصيات مثل الشاعر امرؤ القيس.

يتضح من هذا الاستعراض أن أراضي السعودية الحالية شهدت تنوعًا حضاريًا كبيرًا، بدءًا من مجتمعات الصيد وجمع الثمار في عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بحضارات تجارية مهمة على الساحل الشرقي، وصولًا إلى ممالك الواحات القوية في الشمال والغرب، واتحادات قبلية مؤثرة في الوسط.

مقارنة الأدلة وتحديات التأريخ الحضاري

عند محاولة المقارنة لتحديد "من الأقدم حضارة"، نواجه عدة تحديات تتعلق بتعريف "الحضارة" نفسها وبطبيعة الأدلة المتاحة وتفسيرها. لا يمكن تقديم إجابة بسيطة، ولكن يمكن مقارنة بعض الجوانب بناءً على ما هو معروف حاليًا:

  1. ظهور الدول والممالك المنظمة 📌 بناءً على الأدلة الحالية (النقوش، الآثار المعمارية الضخمة، ذكرها في السجلات الخارجية)، يبدو أن الممالك الكبرى المنظمة ذات الهياكل السياسية المعقدة (مثل سبأ ومعين وقتبان وحضرموت) ظهرت وتطورت بشكل واضح وموثق في جنوب الجزيرة (اليمن) في وقت مبكر نسبيًا، وتحديدًا خلال الألف الأول قبل الميلاد، وربما قبل ذلك. في المقابل، بينما وجدت تجمعات سكانية مهمة ومراكز تجارية في مناطق السعودية الحالية منذ آلاف السنين (مثل دلمون)، فإن الممالك الكبرى الموثقة جيدًا مثل لحيان والأنباط وكندة ظهرت في فترات لاحقة نسبيًا أو كانت ذات طابع مختلف (ممالك واحات أو اتحادات قبلية).
  2. الاستقرار الزراعي والمشاريع الكبرى 📌 ساعد المناخ الأكثر اعتدالاً والأمطار الموسمية في أجزاء من اليمن على قيام مجتمعات زراعية مستقرة واسعة النطاق في وقت مبكر، مما سمح بتطور مشاريع هندسية ضخمة مثل سد مأرب وأنظمة الري المعقدة. هذا النوع من الاستقرار الزراعي واسع النطاق والمشاريع المركزية الكبرى كان أقل شيوعًا في معظم أنحاء الجزيرة العربية الأخرى التي اعتمدت بشكل أكبر على الزراعة في الواحات أو الرعي والتجارة.
  3. تطور الكتابة واستخدامها 📌 يُعد خط المسند (الأبجدية العربية الجنوبية) نظام كتابة متطور تم استخدامه على نطاق واسع في اليمن القديم لآلاف النقوش منذ الألف الأول قبل الميلاد. بينما وجدت أنظمة كتابة أخرى في شمال الجزيرة (مثل الدادانية واللحيانية والنبطية والثمودية)، إلا أن خط المسند واستخدامه الواسع في السجلات الرسمية والدينية يمثل شاهدًا قويًا على التطور الحضاري المبكر في الجنوب.
  4. الذكر في المصادر الخارجية القديمة 📌 تظهر الإشارات إلى مملكة سبأ في السجلات الآشورية والبابلية، وكذلك في العهد القديم، مما يدل على شهرتها وأهميتها في العالم القديم منذ فترات مبكرة نسبيًا. الإشارات إلى الممالك الشمالية قد تكون أحدث أو أقل تفصيلاً في بعض الحالات.
  5. عمق الاستيطان البشري العام 📌 من ناحية أخرى، إذا اعتبرنا "الحضارة" بمعنى الاستيطان البشري وأقدم آثاره، فإن الأدلة على وجود الإنسان وأنشطته (مثل الأدوات الحجرية والفن الصخري) تعود إلى فترات زمنية عميقة جدًا في *جميع* أنحاء شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك المناطق التي تشكل السعودية حاليًا. مواقع مثل جبة والشويمس والمقر تشير إلى عمق تاريخي هائل للاستيطان البشري في هذه المناطق.
  6. تحدي تعريف "الحضارة" 📌 تعتمد المقارنة بشكل كبير على كيفية تعريفنا لمصطلح "حضارة". هل هي الدولة المنظمة والكتابة والعمران الضخم؟ أم أنها تشمل أيضًا الثقافات المتقدمة غير المركزية، والمجتمعات التجارية، والتكيف المبتكر مع البيئة؟ الإجابة على هذا السؤال تؤثر على نتيجة المقارنة.
  7. الاكتشافات الأثرية المستمرة 📌 يجب التأكيد على أن الصورة التي لدينا عن تاريخ الجزيرة العربية القديم لا تزال قيد التشكل. الاكتشافات الأثرية الجديدة والمستمرة في كل من اليمن والسعودية (خاصة مع التوسع الكبير في الأبحاث الأثرية في السعودية مؤخرًا) قد تغير فهمنا للتسلسل الزمني للتطورات الحضارية وتكشف عن جوانب جديدة وغير معروفة سابقًا.
  8. التنوع الجغرافي والثقافي الداخلي 📌 من المهم أيضًا تذكر أن كلا البلدين الحديثين يضمان داخلهما مناطق شاسعة ذات تاريخ وتطور حضاري متفاوت. المقارنة بين "اليمن" و"السعودية" كوحدتين متجانستين هي تبسيط لتاريخ إقليمي شديد التنوع.

بناءً على هذه النقاط، يمكن القول بحذر أنه إذا كان معيار "أقدم حضارة" يركز على ظهور الممالك الكبرى المنظمة ذات الكتابة والمشاريع المعمارية الضخمة والموثقة جيدًا، فإن الأدلة الحالية تميل إلى إعطاء أسبقية نسبية لممالك جنوب الجزيرة العربية (اليمن). أما إذا كان المعيار هو عمق الاستيطان البشري بشكل عام أو تطور ثقافات معينة (مثل ثقافة الواحات أو الفن الصخري)، فإن الصورة تصبح أكثر تعقيدًا وتوازنًا.

تأثير الجغرافيا على نشوء وتطور الحضارات

تلعب الجغرافيا والبيئة دورًا حاسمًا في تشكيل مسار تطور الحضارات. وفي حالة شبه الجزيرة العربية، يفسر التباين الجغرافي والمناخي بين الجنوب والشمال والشرق والوسط جزءًا كبيرًا من الاختلافات في أنماط التطور الحضاري التي لاحظناها.

  • مناخ اليمن المعتدل نسبيًا تتمتع المرتفعات الجنوبية الغربية لليمن بمناخ أكثر اعتدالاً وتتلقى كميات أكبر من الأمطار الموسمية مقارنة ببقية أنحاء الجزيرة العربية. هذا المناخ سمح بتطور الزراعة المستقرة والمكثفة في وقت مبكر نسبيًا، مما وفر قاعدة اقتصادية صلبة سمحت بنشوء مجتمعات أكبر وأكثر تعقيدًا، وتطلبت أنظمة إدارة مركزية للمياه (مثل السدود وقنوات الري)، وساهمت في ظهور دول وممالك قوية قادرة على حشد الموارد والدفاع عن الأراضي الزراعية الخصبة.
  • البيئة الصحراوية وشبه الصحراوية تغلب البيئة الصحراوية وشبه الصحراوية على معظم أنحاء المملكة العربية السعودية الحالية. في مثل هذه البيئات، تتركز الحياة البشرية المستقرة حول مصادر المياه المحدودة (الواحات)، مما أدى إلى نشوء "حضارات الواحات" التي كانت مراكز زراعية وتجارية مهمة ولكنها غالبًا ما تكون محدودة الحجم جغرافيًا. كما شجعت المساحات الشاسعة على تطور أنماط حياة رعوية متنقلة تتكيف مع ندرة الموارد، والتي كان لها أيضًا تنظيماتها الاجتماعية والاقتصادية المعقدة ولكنها تركت آثارًا مادية أقل ديمومة مقارنة بالدول المستقرة.
  • الموقع الاستراتيجي للتجارة لعب موقع كل منطقة دورًا مختلفًا في شبكات التجارة. اليمن، بموقعها على الساحل الجنوبي الغربي، كانت المنتج الرئيسي للبخور والمر ونقطة انطلاق لطريق البخور البري الشهير، كما كانت بوابة للتجارة البحرية مع شرق إفريقيا والهند. المناطق الشمالية والغربية للسعودية الحالية كانت ممرًا حيويًا لطريق البخور هذا، مما أدى إلى ازدهار ممالك الواحات التي سيطرت على هذا الطريق (مثل دادان ولحيان والأنباط). الساحل الشرقي للسعودية كان جزءًا من شبكة التجارة البحرية في الخليج العربي التي ربطت بلاد الرافدين بدلمون ووادي السند. هذا التنوع في الأدوار التجارية أثر على طبيعة الازدهار الاقتصادي والسياسي لكل منطقة.
  • العزلة النسبية مقابل الاتصال قد تكون المرتفعات اليمنية، بفضل جغرافيتها الصعبة، قد تمتعت بدرجة من العزلة النسبية سمحت بتطور ثقافات وممالك مميزة ومستقلة لفترات طويلة. في المقابل، كانت المناطق الشمالية والوسطى أكثر انفتاحًا على التأثيرات القادمة من بلاد الشام وبلاد الرافدين ومصر، مما أدى إلى تفاعلات ثقافية وسياسية أكثر ديناميكية في بعض الأحيان.

إن فهم هذه العوامل الجغرافية والبيئية يساعد على تقدير سبب تطور أنماط حضارية مختلفة في أجزاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية، ويجعل المقارنة بينها أكثر موضوعية، حيث أن كل نمط حضاري كان استجابة ذكية وناجحة للظروف البيئية والتاريخية الخاصة به.

خارج نطاق المنافسة: الإرث المشترك والترابط التاريخي

بدلاً من التركيز على سؤال "من الأقدم؟" كسباق تنافسي، قد يكون من الأجدى والأكثر دقة تاريخيًا النظر إلى الإرث الحضاري لشبه الجزيرة العربية ككل متكامل ومترابط. فقد كانت هناك تفاعلات وتبادلات ثقافية واقتصادية وسياسية مستمرة بين مختلف مناطق الجزيرة عبر آلاف السنين.

طرق التجارة، وخاصة طريق البخور، كانت شرايين حياة ربطت الجنوب بالشمال والشرق بالغرب. انتقلت السلع والأفكار والتقنيات والأشخاص عبر هذه الطرق، مما أثر على تطور جميع الحضارات والمجتمعات على طولها. نجد تأثيرات متبادلة في الفنون والعمارة واللغات والمعتقدات الدينية. على سبيل المثال، النقوش اللحيانية والنبطية في الشمال تظهر تأثيرات من الجنوب والعكس صحيح في بعض الجوانب. كما أن القبائل العربية كانت تتنقل وتتحالف وتتنافس عبر مناطق واسعة من الجزيرة، مما خلق نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا مشتركًا سبق ظهور الدول الحديثة بقرون طويلة.

كانت الممالك الجنوبية والشمالية تتفاعل، وأحيانًا تتصارع، مع القوى الإقليمية الكبرى مثل الفراعنة والآشوريين والبابليين والفرس والرومان والأحباش، مما أثر على تاريخ المنطقة بأكملها. كما شكلت شبه الجزيرة العربية بأكملها الموطن الذي نشأت فيه اللغة العربية والديانة الإسلامية، وهما عاملان أساسيان وحّدا المنطقة لاحقًا وشكّلا هويتها الحضارية بشكل عميق.

 

الخلاصة: تقدير العمق التاريخي لكلا المنطقتين

إن الإجابة على سؤال "من أقدم حضارة، اليمن أم السعودية؟" ليست بسيطة أو مباشرة. تعتمد الإجابة بشكل كبير على تعريفنا لمصطلح "الحضارة" وعلى الأدلة التي نركز عليها. إذا كان التركيز على ظهور الممالك الكبرى المنظمة ذات الكتابة المتطورة والمشاريع الهندسية الضخمة، فإن الأدلة الحالية تميل إلى إعطاء أسبقية نسبية لحضارات جنوب الجزيرة العربية التي ازدهرت في اليمن الحالي، مثل سبأ وحمير، والتي تعود جذورها الموثقة بشكل جيد إلى الألف الأول قبل الميلاد وربما أبعد. تُعد شواهد مثل سد مأرب واستخدام خط المسند على نطاق واسع دلائل قوية على هذا التطور المبكر.

من ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى عمق الاستيطان البشري وأقدم آثاره، فإن الأدلة الأثرية تشير إلى تاريخ موغل في القدم يمتد لعشرات الآلاف من السنين في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، بما في ذلك المناطق الشاسعة التي تشكل المملكة العربية السعودية اليوم. مواقع الفن الصخري في حائل، وموقع المقر المحتمل، وحضارة دلمون القديمة على الساحل الشرقي، وممالك الواحات في الشمال والغرب مثل دادان ولحيان والأنباط، كلها تشهد على عمق وتنوع التجربة الحضارية في هذه المناطق، حتى وإن اتخذت أشكالًا مختلفة عن ممالك الجنوب في بعض الأحيان.

كما أن الاكتشافات الأثرية الحديثة والمستمرة، خاصة في المملكة العربية السعودية، قد تغير فهمنا للتسلسل الزمني وتكشف عن أدلة جديدة على حضارات ومجتمعات لم تكن معروفة سابقًا أو لم يتم تقدير أهميتها بشكل كامل. يجب أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الترابط والتفاعل المستمر بين مختلف مناطق الجزيرة العربية عبر طرق التجارة والهجرات والتحالفات والصراعات.

الأهم من محاولة تحديد "الأقدم" بشكل قاطع هو تقدير الإرث الحضاري الهائل والغني لكل من اليمن والمملكة العربية السعودية. كلتا المنطقتين قدمتا مساهمات جليلة للتاريخ البشري، وشكلتا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الحضاري للشرق الأدنى القديم والعالم. تاريخهما متشابك وجزء من قصة أكبر هي قصة شبه الجزيرة العربية، مهد العروبة والإسلام وموطن حضارات عريقة ومتنوعة تستحق كلها الدراسة والتقدير.

الخاتمة:  في النهاية، يمكن القول بأن محاولة المفاضلة بين عمق حضارة اليمن والسعودية من خلال سؤال "من الأقدم؟" هي مهمة معقدة وتبسيطية لتاريخ غني ومتشابك. تشير الأدلة الحالية إلى أن ممالك جنوب الجزيرة (اليمن) قد تكون الأسبق في إظهار سمات الدولة المنظمة على نطاق واسع، مع إنجازات معمارية وكتابية مبكرة وموثقة جيدًا. ومع ذلك، فإن أراضي المملكة العربية السعودية الحالية تمتلك بدورها أدلة على استيطان بشري وثقافات متطورة تعود لعصور سحيقة، وشهدت قيام حضارات وممالك مهمة لعبت أدوارًا محورية في تاريخ المنطقة.

الأهم من ذلك هو الاعتراف بأن كلا المنطقتين تشتركان في إرث حضاري عميق ومتجذر في تربة شبه الجزيرة العربية. لقد كانتا مترابطتين ومتفاعلتين عبر التاريخ، وشكلتا معًا جزءًا حيويًا من قصة الحضارة الإنسانية في الشرق الأدنى القديم. إن تقدير هذا الإرث المشترك والاعتزاز بالعمق التاريخي لكلا القطرين هو النهج الأكثر إنصافًا ودقة عند استكشاف ماضي هذه المنطقة العريقة.



كـــــارم المرحـبـي
كـــــارم المرحـبـي
تعليقات