القاضي عبد الرحمن الإرياني

القاضي عبد الرحمن الإرياني رجل الدولة والمصالحة في تاريخ اليمن الحديث

يعتبر القاضي عبد الرحمن بن يحيى الإرياني شخصية محورية في تاريخ اليمن المعاصر، فهو ثاني رئيس للجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي سابقاً) بعد الإطاحة بالنظام الملكي الإمامي في ثورة 26 سبتمبر 1962. تميزت فترة حكمه التي امتدت من عام 1967 إلى 1974 بمحاولات جادة لإرساء دعائم الدولة الحديثة وتحقيق المصالحة الوطنية في بلد مزقته الحرب الأهلية. يمثل عبد الرحمن الإرياني نموذجاً للقيادة المعتدلة والوسطية في فترة انتقالية بالغة التعقيد، وشكلت تجربته في الحكم علامة فارقة في مسيرة بناء الدولة اليمنية. يتطلب فهم تاريخ اليمن الحديث دراسة متأنية لدور شخصيات بارزة مثل الإرياني، الذي جمع بين الخلفية الدينية كقاضٍ بارز والحنكة السياسية كرجل دولة سعى لتوحيد الصف وتجاوز الانقسامات. إن استعراض مسيرته وإنجازاته وتحدياته يلقي الضوء على الصعوبات الجمة التي واجهت الجمهورية الوليدة وفرص النجاح والإخفاق في تلك الحقبة المفصلية.
القاضي عبد الرحمن الإرياني
القاضي عبد الرحمن الإرياني

شهدت حياة الإرياني تحولات كبرى، من كونه عالماً وقاضياً مرموقاً في ظل حكم الإمامة، إلى أحد أبرز قادة الثورة والجمهورية، ثم رئيساً للدولة، وأخيراً منفياً خارج وطنه. تمثل دراسة سيرته الذاتية مدخلاً أساسياً لفهم التحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي مرت بها اليمن في القرن العشرين، وتقدم رؤية شاملة حول تحديات بناء الدولة في بيئة شديدة التعقيد والصراع. إن النجاح في فهم فترة حكم الإرياني يتطلب تجاوز السرد التقليدي للأحداث والغوص في تحليل السياسات الداخلية والخارجية، وتقييم إرثه السياسي بموضوعية.

النشأة والتكوين في ظل الإمامة

ولد عبد الرحمن بن يحيى الإرياني عام 1910 في قرية إريان بمحافظة إب اليمنية، ونشأ في بيئة علمية ودينية عريقة. تلقى تعليمه الأولي في قريته ثم انتقل إلى صنعاء، عاصمة الدولة المتوكلية اليمنية (الإمامة الزيدية)، لاستكمال دراسته الدينية والفقهية على يد كبار علماء الزيدية في ذلك الوقت. برز نبوغه مبكراً وتميز في علوم الفقه والشريعة واللغة العربية، مما أهله لتولي مناصب قضائية رفيعة في سن مبكرة نسبياً.
عمل الإرياني قاضياً في عدة مناطق يمنية، واكتسب سمعة طيبة كقاضٍ عادل ونزيه، مما أكسبه احتراماً واسعاً لدى مختلف الأوساط الشعبية والنخب. لم تقتصر اهتماماته على الجانب القضائي، بل كان مفكراً وشاعراً ومتابعاً للشأن العام، ومدركاً لحالة التخلف والعزلة التي كانت تعيشها اليمن تحت حكم الأئمة. بدأت تتشكل لديه رؤى إصلاحية وتوق للتغيير، متأثراً بحركات التحرر والإصلاح في العالم العربي.

على الرغم من مكانته في النظام القضائي للإمامة، إلا أن القاضي الإرياني لم يكن بعيداً عن التيارات المعارضة التي بدأت تنشط سراً في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. انخرط بشكل غير مباشر في حركة الأحرار اليمنيين، التي كانت تطالب بالإصلاح الدستوري والسياسي والحد من السلطة المطلقة للإمام. وقد أدت مواقفه وآراؤه الإصلاحية، وإن كانت معتدلة، إلى وضعه تحت مجهر السلطات الإمامية، وتعرض للسجن لفترات متفاوتة خلال عهد الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين بسبب الاشتباه في دعمه للمعارضة. هذه التجارب عززت من قناعاته بضرورة التغيير الجذري في اليمن.
  1. التكوين العلمي الرصين: تلقى تعليماً دينياً وفقهياً معمقاً في صنعاء على يد كبار العلماء.
  2. المسار القضائي: تولى مناصب قضائية هامة واشتهر بالعدل والنزاهة.
  3. الوعي الإصلاحي: أدرك حاجة اليمن للتغيير والتحديث والانفتاح على العالم.
  4. الانخراط (غير المباشر) في المعارضة: تواصل مع حركة الأحرار وتعرض للسجن بسبب مواقفه.
  5. اكتساب الاحترام: حظي بمكانة مرموقة لدى النخب والعامة بفضل علمه ونزاهته.
باختصار، شكلت فترة النشأة والتكوين شخصية عبد الرحمن الإرياني كرجل يجمع بين الأصالة المتمثلة في العلم الشرعي والمعاصرة المتمثلة في الوعي بضرورة الإصلاح والتغيير، وهي السمات التي ستلازمه طوال مسيرته السياسية اللاحقة وتؤهله للعب دور محوري في تاريخ اليمن الحديث.

دوره في ثورة 26 سبتمبر 1962

مع اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بحكم الإمامة وأعلنت قيام الجمهورية العربية اليمنية، برز اسم القاضي عبد الرحمن الإرياني كأحد أبرز الشخصيات المدنية والدينية التي أيدت الثورة وساندت النظام الجمهوري الوليد. لم يكن الإرياني من الضباط العسكريين الذين خططوا ونفذوا الثورة بشكل مباشر، ولكنه كان شخصية ذات وزن كبير، يمثل تيار الاعتدال والشرعية الدينية، وكان انضمامه المبكر للثورة عاملاً مهماً في منحها زخماً وقبولاً أوسع، خاصة في الأوساط التقليدية ورجال الدين.

  1. التأييد المبكر للثورة 📌 كان من أوائل الشخصيات البارزة التي أعلنت تأييدها للنظام الجمهوري، مما أعطى الثورة شرعية دينية وشعبية إضافية.
  2. عضوية مجلس قيادة الثورة 📌 تم اختياره عضواً في مجلس قيادة الثورة، الهيئة العليا التي تولت إدارة شؤون البلاد بعد الإطاحة بالإمام.
  3. المناصب الوزارية 📌 شغل منصب وزير العدل في أولى الحكومات الجمهورية، ثم أصبح نائباً لرئيس الوزراء، مما يعكس الثقة الكبيرة في قدراته وخبرته.
  4. دوره في صياغة الدساتير 📌 شارك بفعالية في لجان صياغة الدساتير المؤقتة والدائمة للجمهورية، مستفيداً من خلفيته القانونية والفقهية.
  5. ممثل التيار المعتدل 📌 كان يمثل صوت الحكمة والاعتدال داخل القيادة الجمهورية، ساعياً للتوفيق بين مختلف التيارات السياسية والعسكرية.
  6. بناء المؤسسات 📌 ساهم في جهود بناء المؤسسات القضائية والإدارية للدولة الجديدة، وهي مهمة حيوية لترسيخ النظام الجمهوري.

لم يكن دور الإرياني في السنوات الأولى للثورة خالياً من التحديات. فقد شهدت هذه الفترة اندلاع الحرب الأهلية اليمنية بين الجمهوريين المدعومين من مصر والملكيين المدعومين من السعودية، بالإضافة إلى صراعات داخلية بين أجنحة الحكم الجمهوري نفسه. حاول الإرياني دائماً لعب دور الوسيط والمصلح، داعياً إلى تغليب لغة الحوار والمصلحة الوطنية على الخلافات الضيقة. إن مشاركته الفاعلة في تأسيس الجمهورية وتولي مناصب قيادية مبكرة جعلته شخصية لا غنى عنها في المشهد السياسي اليمني بعد عام 1962، ومهدت الطريق أمامه لتولي أعلى منصب في الدولة لاحقاً.

الطريق إلى الرئاسة وتحديات المصالحة الوطنية

شهدت الفترة بين عامي 1962 و 1967 تقلبات سياسية وعسكرية حادة في اليمن. استمرت الحرب الأهلية الطاحنة، وتعمقت الخلافات داخل المعسكر الجمهوري، خاصة بين التيار العسكري بقيادة المشير عبد الله السلال (أول رئيس للجمهورية) والتيارات المدنية والقبلية الأخرى. لعب عبد الرحمن الإرياني دوراً مهماً في هذه الفترة كرئيس للمجلس الجمهوري (هيئة رئاسية جماعية تشكلت لفترات) وكشخصية توافقية تسعى لرأب الصدع.

  • الانسحاب المصري وتداعياته بعد هزيمة مصر في حرب 1967، قررت سحب قواتها من اليمن، مما أضعف موقف الجمهوريين بشكل كبير وزاد من الضغوط لتحقيق تسوية سياسية للحرب الأهلية.
  • حركة 5 نوفمبر 1967 أدت التطورات الداخلية والخارجية إلى الإطاحة بالرئيس عبد الله السلال في انقلاب سلمي أثناء زيارته للعراق. تم تشكيل مجلس جمهوري جديد برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني.
  • حصار السبعين (حصار صنعاء) واجهت الجمهورية بعد فترة وجيزة من تولي الإرياني الرئاسة أخطر تحدٍ عسكري، حيث حاصرت القوات الملكية العاصمة صنعاء لمدة سبعين يوماً (نوفمبر 1967 - فبراير 1968). صمود الجمهوريين في هذا الحصار، بقيادة سياسية من الإرياني وعسكرية من الفريق حسن العمري، شكل نقطة تحول حاسمة في الحرب وأثبت قدرة الجمهورية على البقاء.
  • جهود المصالحة الوطنية كان الهدف الأسمى للإرياني هو إنهاء الحرب الأهلية وتحقيق المصالحة الوطنية اليمنية. قاد جهوداً دبلوماسية وسياسية مكثفة، داخلية وخارجية، أثمرت في نهاية المطاف عن اتفاق مصالحة في عام 1970 برعاية سعودية. بموجب هذا الاتفاق، تم دمج العديد من الشخصيات الملكية السابقة في مؤسسات الدولة الجمهورية، وانتهت الحرب الأهلية رسمياً.
  • ترسيخ الشرعية الدستورية عمل الإرياني على بناء مؤسسات الدولة وإرساء الشرعية الدستورية. تم في عهده إقرار أول دستور دائم للجمهورية العربية اليمنية عام 1970، وتشكيل مجلس الشورى (البرلمان)، مما مثل خطوة مهمة نحو بناء دولة المؤسسات والقانون.

تعتبر فترة رئاسة القاضي الإرياني فترة تأسيسية حقيقية للدولة اليمنية الحديثة. فعلى الرغم من التحديات الهائلة المتمثلة في إرث الحرب الأهلية، والوضع الاقتصادي الصعب، والنفوذ القبلي القوي، والانقسامات السياسية، إلا أنه نجح في تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب، ووضع اللبنات الأولى للدولة الدستورية. كانت سياسته تتسم بالاعتدال، والانفتاح على مختلف القوى السياسية، والسعي لتحقيق التوازن بين متطلبات بناء الدولة والحفاظ على النسيج الاجتماعي التقليدي. ومع ذلك، لم تخلُ فترة حكمه من صعوبات ونقاط ضعف مهدت لاحقاً للإطاحة به.

إنجازات وتحديات فترة الحكم (1967-1974)

تميزت فترة رئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني (5 نوفمبر 1967 - 13 يونيو 1974) بمجموعة من الإنجازات الهامة، ولكنها واجهت أيضاً تحديات جسام. يمكن تلخيص أبرز ملامح هذه الفترة في النقاط التالية:

أولاً: الإنجازات الرئيسية:

  1. تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب الأهلية: يعتبر هذا الإنجاز الأبرز لحكم الإرياني. فبعد سنوات من الحرب المدمرة، تم التوصل إلى اتفاق تاريخي عام 1970 أنهى الصراع وسمح بدمج الأطراف المتصارعة في إطار الدولة الجمهورية.
  2. إرساء دعائم الدولة الدستورية: شهدت فترة حكمه إقرار أول دستور دائم للبلاد عام 1970، وتأسيس مجلس الشورى المنتخب (بشكل غير مباشر)، مما شكل خطوة نحو الحياة النيابية والمؤسسية.
  3. بناء المؤسسات: جرت محاولات جادة لبناء وتطوير مؤسسات الدولة، خاصة في مجالات القضاء والإدارة والتعليم والصحة، رغم شح الموارد.
  4. السياسة الخارجية المتوازنة: انتهج الإرياني سياسة خارجية معتدلة، حيث حافظ على علاقات جيدة مع المملكة العربية السعودية بعد المصالحة، واستمر في التعاون مع مصر، وأقام علاقات دبلوماسية مع دول الغرب والشرق، وسعى لتحسين العلاقات مع اليمن الجنوبي (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية).
  5. الحفاظ على الوحدة الوطنية (بشكل نسبي): في ظل ظروف بالغة التعقيد، نجح الإرياني إلى حد كبير في الحفاظ على وحدة الكيان الجمهوري وتجنب الانزلاق مرة أخرى إلى حرب شاملة.
  6. تشجيع التعليم: أولى اهتماماً بالتعليم ونشر المدارس رغم الإمكانيات المحدودة جداً للدولة آنذاك.

ثانياً: التحديات والصعوبات:

  1. ضعف السلطة المركزية: ظلت سلطة الدولة المركزية هشة، خاصة في مواجهة النفوذ القوي لشيوخ القبائل والمراكز العسكرية المتعددة.
  2. الأزمة الاقتصادية: عانت البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، نتيجة لسنوات الحرب الطويلة وشح الموارد الطبيعية واعتماد كبير على المساعدات الخارجية (خاصة السعودية).
  3. الفساد الإداري والمالي: بدأت ظواهر الفساد تنتشر في مؤسسات الدولة الوليدة، مما أضعف من كفاءتها ومصداقيتها.
  4. الصراعات داخل النخبة الحاكمة: استمرت الصراعات والتنافس على النفوذ بين مختلف الأجنحة السياسية والعسكرية والقبلية داخل النظام، مما أعاق عملية صنع القرار وأضعف هيبة الدولة.
  5. التوتر مع اليمن الجنوبي: رغم محاولات التقارب، شهدت العلاقات مع الشطر الجنوبي توترات متكررة وحرباً حدودية قصيرة عام 1972، تلتها اتفاقيات وحدة لم تترجم على أرض الواقع.
  6. تزايد نفوذ الجيش: مع الوقت، بدأ نفوذ المؤسسة العسكرية يتزايد في الحياة السياسية، مما مهد الأرضية لحدوث تغيير عسكري.

شكلت هذه التحديات مجتمعة ضغطاً كبيراً على نظام حكم الرئيس الإرياني. وبينما يُحسب له نجاحه في إنهاء الحرب وإرساء بعض أسس الدولة، يرى منتقدوه أن قيادته افتقرت للحسم اللازم لمواجهة النفوذ القبلي والعسكري والفساد المتنامي، وأن اعتماده على سياسة التوازنات والتسويات أدى إلى إضعاف الدولة على المدى الطويل.

الانقلاب والإطاحة: نهاية حقبة الإرياني

في 13 يونيو 1974، وبينما كان اليمن يحتفل بمرور أربع سنوات على إقرار الدستور الدائم، شهدت العاصمة صنعاء تحركاً عسكرياً مفاجئاً عرف بـ "حركة 13 يونيو التصحيحية". قاد هذه الحركة المقدم إبراهيم محمد الحمدي، نائب القائد العام للقوات المسلحة آنذاك، وأدت إلى الإطاحة بنظام حكم القاضي عبد الرحمن الإرياني وإنهاء فترة رئاسته التي دامت قرابة سبع سنوات.

يمكن إرجاع أسباب هذا الانقلاب (الذي وصفه قادته بأنه حركة تصحيحية) إلى مجموعة من العوامل المتراكمة:
  • تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: تفاقمت الأزمة الاقتصادية وزادت معدلات الفقر والبطالة، مما أدى إلى حالة من السخط الشعبي العام.
  • ضعف أداء الحكومة ومؤسسات الدولة: انتشر الشعور بأن الحكومة عاجزة عن تلبية احتياجات المواطنين ومواجهة التحديات، وتزايدت الانتقادات الموجهة لانتشار الفساد والمحسوبية.
  • الصراعات الداخلية في النخبة الحاكمة: أدت الخلافات المستمرة بين مراكز القوى السياسية والقبلية والعسكرية إلى شلل في عملية صنع القرار وإضعاف هيبة الدولة، مما خلق فراغاً سعى الجيش لملئه.
  • طموحات المؤسسة العسكرية: شعرت قيادات شابة في الجيش، مثل المقدم إبراهيم الحمدي، بالإحباط من الوضع القائم ورأت أن القيادة المدنية فشلت في تحقيق تطلعات الشعب والثورة، وأن الوقت قد حان لتدخل الجيش "لتصحيح المسار".
  • دور القوى الخارجية (تكهنات): يرى بعض المحللين أن قوى خارجية، ربما المملكة العربية السعودية الساعية لتعزيز نفوذها في اليمن، لم تكن مرتاحة تماماً لسياسات الإرياني المستقلة نسبياً، وربما دعمت التغيير بشكل غير مباشر.

تم الانقلاب بشكل سلمي إلى حد كبير، حيث سيطرت وحدات من الجيش على المراكز الحيوية في صنعاء دون مقاومة تذكر. قدم الرئيس الإرياني استقالته حقناً للدماء، وتم تشكيل مجلس قيادة جديد برئاسة إبراهيم الحمدي.

شكلت الإطاحة بـ عبد الرحمن الإرياني نهاية لحقبة مهمة في تاريخ الجمهورية العربية اليمنية. كانت حقبة تميزت بالانتقال من الحرب الأهلية إلى المصالحة، ومن الحكم العسكري المباشر بعد الثورة إلى محاولة بناء دولة المؤسسات والدستور. وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت لفترة حكمه، إلا أن الإرياني ظل يحظى باحترام كبير كشخصية وطنية معتدلة وسعت للم شمل اليمنيين وإرساء السلام. انتقل بعدها للعيش في المنفى، متنقلاً بين سوريا ومصر، حتى وفاته. إن فهم ملابسات الإطاحة به أمر ضروري لتحليل مسار الدولة اليمنية وتأثير المؤسسة العسكرية وديناميكيات السلطة في تاريخ اليمن الحديث.

سنوات المنفى والرحيل

بعد الإطاحة به في انقلاب 13 يونيو 1974، غادر القاضي عبد الرحمن الإرياني اليمن ليعيش سنواته المتبقية في المنفى. اختار بداية الإقامة في دمشق، العاصمة السورية، حيث وجد ترحيباً وتقديراً من القيادة السورية آنذاك. تميزت حياته في المنفى بالابتعاد التام عن أي نشاط سياسي يتعلق باليمن، ملتزماً الصمت تجاه التطورات التي كانت تشهدها بلاده تحت حكم الرئيس الجديد إبراهيم الحمدي ومن بعده.

حافظ الإرياني خلال فترة منفاه على مكانته كشخصية وطنية تحظى بالاحترام، حتى من قبل بعض خصومه السياسيين. كان يُنظر إليه كرجل دولة سعى للمصلحة العامة وحقن دماء اليمنيين، حتى وإن اختلفت التقييمات حول مدى نجاح سياساته. قضى وقته في القراءة والكتابة والعبادة، واستقبال بعض الزوار القلائل من اليمنيين الذين كانوا يقدرون دوره التاريخي.

على الرغم من ابتعاده عن السياسة، ظل اسم عبد الرحمن الإرياني مرتبطاً بفترة مهمة من تاريخ اليمن، وهي فترة المصالحة وبداية بناء الدولة بعد الحرب الأهلية. كانت تجربته محل دراسة وتحليل من قبل المؤرخين والباحثين المهتمين بالشأن اليمني.

في 14 مارس 1998، توفي القاضي عبد الرحمن الإرياني في دمشق عن عمر يناهز 88 عاماً، بعد حياة حافلة امتدت عبر مراحل مفصلية من تاريخ اليمن في القرن العشرين. نُقل جثمانه إلى صنعاء، حيث شُيع في جنازة رسمية وشعبية حاشدة، شارك فيها كبار المسؤولين وجمع غفير من المواطنين، مما عكس الاحترام الذي ظل يحظى به حتى بعد وفاته بسنوات طويلة. دفن في مقبرة الشهداء بصنعاء.

يمثل رحيل الإرياني نهاية لجيل من القادة الذين شهدوا تحولات اليمن الكبرى من الإمامة إلى الجمهورية، ومن الحرب إلى محاولات السلام وبناء الدولة. تركت سنوات منفاه الطويلة، التي قضاها بعيداً عن وطنه، أثراً في الذاكرة اليمنية، كتذكير بالتقلبات السياسية التي غالباً ما أدت إلى إقصاء شخصيات وطنية لعبت أدواراً هامة في تاريخ البلاد.

إرث القاضي عبد الرحمن الإرياني وتقييمه التاريخي

يعد القاضي عبد الرحمن الإرياني شخصية مركبة في تاريخ اليمن الحديث، ويختلف المؤرخون والمحللون في تقييم إرثه وفترة حكمه. ومع ذلك، هناك شبه إجماع على أهمية الدور الذي لعبه في مرحلة حرجة من تاريخ البلاد. يمكن تلخيص أبرز جوانب إرثه ونقاط تقييمه فيما يلي:

  • رجل المصالحة والسلام: يُعتبر تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الحرب الأهلية عام 1970 الإنجاز الأكبر والأكثر ديمومة للإرياني. نجح في لم شمل الفرقاء وتحقيق سلام اجتماعي نسبي بعد سنوات من الاقتتال الدموي.
  • مؤسس الدولة الدستورية (بشكل نسبي): تحت حكمه، تم إقرار أول دستور دائم وتشكيل أول برلمان (مجلس الشورى)، مما وضع أسس الدولة الحديثة القائمة على المؤسسات، حتى وإن كانت هذه المؤسسات هشة في بدايتها.
  • رمز الاعتدال والوسطية: مثل الإرياني تياراً معتدلاً يسعى للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وبين متطلبات بناء الدولة والحفاظ على التقاليد الاجتماعية. كانت قيادته تميل إلى الحوار والتسويات بدلاً من المواجهة.
  • انتقادات حول ضعف الحسم: يرى منتقدوه أن سياسة التوازنات التي اتبعها أدت إلى ضعف هيبة الدولة وفشلها في كبح جماح مراكز القوى القبلية والعسكرية، وسمحت بتنامي الفساد، مما مهد للإطاحة به.
  • شخصية انتقالية: يُنظر إليه غالباً كشخصية انتقالية بين فترة الحرب وبداية الاستقرار النسبي، وبين حكم العسكر ومحاولة إرساء حكم مدني دستوري. نجح في إدارة الانتقال الصعب بعد السلال، ولكنه لم يستطع إكمال بناء الدولة القوية.
  • الإرث الأخلاقي: ظل الإرياني يتمتع بسمعة طيبة كرجل نزيه ومتدين ووطني، ولم تسجل عليه شبهات فساد شخصي، مما أكسبه احتراماً دائماً لدى قطاعات واسعة من اليمنيين.

يبقى تقييم عبد الرحمن الإرياني مرتبطاً بالسياق التاريخي المعقد الذي حكم فيه. كانت اليمن تخرج من حرب أهلية مدمرة، وتواجه تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية هائلة، وتفتقر إلى أبسط مقومات الدولة الحديثة. في ظل هذه الظروف، يُعد نجاحه في تحقيق المصالحة وإرساء بعض المؤسسات أمراً لافتاً.

خلاصة القول  يمثل القاضي عبد الرحمن الإرياني فصلاً مهماً لا يمكن تجاهله في كتاب تاريخ اليمن المعاصر. إنه القاضي الذي تحول إلى رجل دولة، وقائد المصالحة الذي سعى لبناء السلام، والزعيم المعتدل الذي حاول التوفيق بين قوى متنافرة في مرحلة تأسيسية مضطربة. يبقى إرثه موضوعاً للنقاش والتحليل، وشاهدًا على تحديات بناء الدولة الوطنية في اليمن.

الخاتمة: في الختام، تبرز مسيرة القاضي عبد الرحمن الإرياني كشاهد على حقبة محورية وحافلة بالتحولات في تاريخ اليمن. من عالم وقاضٍ مرموق إلى أحد قادة ثورة سبتمبر، ثم رئيساً للجمهورية قاد البلاد خلال فترة عصيبة من الحرب والمصالحة وبناء المؤسسات، وصولاً إلى سنوات المنفى والرحيل بهدوء. لقد كان الإرياني رجل دولة بامتياز، حمل على عاتقه مسؤولية قيادة بلد خارج لتوه من حرب أهلية مدمرة، وسعى جاهداً لتحقيق الاستقرار وبناء أسس الدولة الحديثة.

إن أبرز ما يميز إرث الإرياني هو نجاحه التاريخي في تحقيق المصالحة الوطنية عام 1970، ووضع أول دستور دائم للبلاد، وتأسيس مجلس الشورى، مما مثل خطوات أساسية نحو دولة المؤسسات والقانون. ورغم التحديات الجسام والانتقادات التي وجهت لضعف حسمه في مواجهة مراكز القوى المتنفذة، إلا أن فترة حكمه تظل علامة فارقة في الانتقال من الصراع إلى محاولة البناء. يظل عبد الرحمن الإرياني في الذاكرة اليمنية رمزاً للاعتدال والوطنية، وشخصية تستحق الدراسة والفهم العميق لكل من يسعى لاستيعاب تعقيدات تاريخ اليمن الحديث ومسار بناء دولته.

كـــــارم المرحـبـي
كـــــارم المرحـبـي
تعليقات